الحرية والتعدديّة في الإسلام: رؤية ثقافيّة

عاصم حفني*

doi:10.17879/mjiphs-2023-4618

ملخص

الحرية شرط التعدديّة، والتعدديّة نتيجة طبيعة للحرية، ولا يمكن تصور مجتمع متعدد الأفكار والرؤى والمعتقدات بدون حرية، ورغم أنَّ مصطلح التعدديّة ليس له تأصيل تاريخي في العقل اللغوي الإسلامي، إلا أنه يتشابه في المضمون مع المصطلح القرآني «الاختلاف» الذي يُعد سنة كونية. ويتوقف إدراك قيمة الحرية على منهج النظر في نصوص الإسلام من قرآن وسنة؛ حيث يمكن للباحث عن تكييف الحرية أن يُدلل على حث الإسلام على حرية الفكر والعقيدة مثلًا، أو على تقييده لهما، ففي القرآن آيات يفيد ظاهر معناها حرية الإنسان في الفعل والترك، وآيات أخرى توحي بأنه مجبر في كل شيء، وهنا تظهر أهمية خلفية الباحث الثقافية والعلمية في تحديد وجهته ومنهجه، وبالتبعية نتائجه. من هنا تروم الورقة معالجة علاقة الحرية بالتعدديّة قياسًا على تصورات مفكرين مسلمين حولهما، وحول ما يرتبط بهما من مفاهيم كالتكليف والقدر والإجماع والأمر بالمعروف، مع التركيز على البعد الثقافي وراء تلك المفاهيم، وأثره في صياغة مفهومي الحرية والتعدديّة سلبًا أو إيجابًا، وذلك مثل تأثير مفهوم القبيلة والشرف؛ فالورقة تفرق بين الإسلام بركيزتيه القرآن والسنة، وهو ما تسميه «إسلام النظرية»، وبين تجربة المسلمين التاريخية وما أنتجته من فقه وأحكام بشرية، وهو ما تسميه «إسلام الممارسة».

كلمات مفتاحية: حرية؛ تعدديّة؛ معتقد؛ ثقافة

* باحث بالمعهد العالي للدراسات الإسلاميّة Zentrum für Islamische Theologie بجامعة مونستر، ألمانيا.

Freedom and Pluralism in Islam: A Cultural Interpretation

Assem Hefny*

Abstract

Freedom is a prerequisite for pluralism, and pluralism is an inevitable consequence of freedom, and a pluralistic society of ideas and beliefs is inconceivable without freedom. Although the term pluralism has no historical root in the Islamic vocabulary, its content is similar to the Quranic term “ikhtilāf”, which is a divine law according to Islamic belief. Recognizing the value of freedom depends on the methodology of examining the texts of Islam, whether the Qur’an or the Sunna. The paper aims to address the relation between freedom and pluralism as seen by Muslim thinkers and related concepts such as “taklīf”, “qadar” Predestination, “Ijmāʿ” consensus and “al-amr bilmaʿrūf” enjoining good, with a focus on the cultural dimension behind these concepts, and its impact on formulating the concepts of freedom and pluralism. The paper also distinguishes between Islam based on the Qurʼan and the Sunna, which I will refer to as “the Islam of theory”, and the historical experience of Muslims and what it has produced in terms of jurisprudence, which I will refer to as “the Islam of practice”.

Keywords: Freedom; Pluralism; Culture; Doctrine

* Researcher at Centre for Islamic Theology at Münster University, Germany.

تمهيد

يُعدُّ الارتباط بين الحرية والتعدديّة ارتباطًا تلازميًّا لا ينفك، بمعنى أنَّ التعدديّة نتيجة طبيعية للحرية، ولا يمكن تصور مجتمع مُتعدِّد الأفكار والرؤى والمعتقدات بدون حرية، ورغم أنَّ مُصطلح التعدديّة ليس له تأصيل تاريخيّ في العقل اللغوي الإسلاميّ إلا أنه يتشابه في المضمون مع المصطلح القرآني «الاختلاف» الذي يُعدُّ آية وسُنَّة كونيّة لا مناص منها كما جاء في الذكر الحكيم «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ» (الروم 30: 22وبما أنه لا مشاحة في الاصطلاح ولأن العبرة بالمضامين لا بالأسماء والعناوين كما يقول الأصوليون فسنكتفي هنا باستخدام مُصطلح التعدديّة.

يتوقف مدى إدراك قيمة الحرية كشرط للتعدديّة ومفهومها وحدودها في الإسلام على منهج النظر وأسلوب التعاطي مع نصوص الإسلام الأصلية من قرآن وسنة؛ حيث يمكن للباحث عن تكييف الحرية في الإسلام أن يُدلل على حثِّ الإسلام على حرية الفكر والعقيدة مثلًا أو على تقييده لهما، فعندما تقرأ قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ» (الرعد 13: 11) أو قوله جل علاه «مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً» (الإسراء 17: 15) تجد أن الله تعالى أسند فعليْ التغيير والهداية للإنسان، مما يوحي بأن الإنسان له حرية الإرادة وهو قادر على تغيير ما فيه بنفسه واتباع أي منهج يختاره، ولكنك تقرأ في نفس الوقت آيات أخرى يُفهم منها غير ذلك مثل قوله تعالى «مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ» (الأعراف 7: 178) أو قوله «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» (القصص 28: 56) حيث أسند الله تبارك وتعالى فعل الهداية إلى نفسه مما يبدو سلبًا للإنسان حرية الإرادة والمسؤولية.

إشكالية الورقة

ظاهر التعارض سالف الذكر بين دلالات الآيات القرآنية جعل كثيرًا من الباحثين في العلوم الإسلاميّة يستعين بالأدلة سواء من الكتاب أو من السنة بطريقة انتقائية ليثبت ما يرمي إليه من هدف البحث، بحيث يذكر ما يتفق وهدفه ويترك ما يدحضه، وفي رأينا يرجع ذلك إلى الافتقار إلى نظرية تفسيرية تقوم على أسس ومبادئ مستقرة تساعد المفسر أو الفقيه على بناء حُكم فقهيّ قائم على معايير دقيقة، ومن ثم كانت طبيعة الباحث وتكوينه العلمي والثقافي والبيئي والجغرافي عنصرا هاما في تحديد وجهته وما يستخدمه من منهج وأدلة في معالجة وتحليل أي قضية دينية.

ونحن إذ نتعرض هنا لعلاقة الحرية بالتعدديّة في الإسلام، لن نستطيع الخوض في كافة مجالات الحرية وأنواعها، ولذا سنقصر الحديث على بعض نماذج لمفكرين مسلمين وتصورهم حول بعض المفاهيم الإسلاميّة التي يؤثر عدم تحديد ماهيتها على الحريات وبالتبعية التعدديّة إيجابًا أو سلبًا، وسنتعاطى مع هذه النماذج تعاطيا نقديا عبر عرض الفكرة والتعليق عليها، وحتى لا نقع فيما نحذر منه من انتقائية غير مُبررة لوجهة نظر أو لأخرى، سنعالج الموضوع من البعد الثقافي(1) الذي يكمن وراء تلك المفاهيم المتعلقة بالحرية والتعدديّة، والتي وإن بدت غير مترابطة فيما بينها من حيث المجال، إلا أنها يربطها جميعها رابط التأثير في مفهوم الحرية وممارستها من قبل المخاطبين بالنص، بمعنى أننا سنفرق بين الإسلام بوصفه دينًا مقدسًا يقوم على ركيزتي القرآن والسنة وهو ما سنسميه «إسلام النظريّة»، وبين وقائع تاريخ المسلمين وما أنتجوه من فقه وأحكام بشرية خاضعة لإكراهات التاريخ وظرفي الزمان والمكان، وهو ما سنضع له اسم «إسلام الممارسة».

معنى الحرية

يبدو أن الثقافة العربيّة الإسلاميّة لم تستخدم كلمة حرية بمعنى حرية الفكر والرأي، حيث لم أستطع خلال البحث الوصول لشهاد لغوي على ذلك، بل كان استخدامها بمعنى العتق من العبودية، أي أنها انسحبت على الحرية المحسوسة وتخلص الإنسان من تبعيته الجسدية لسيده، أما دلالة كلمة حر المعنوية فانسحبت على الجيد والحسن والأصيل من الفرس والإنسان وكذلك المرأة الكريمة(2)، أي أن الدلالة المعنوية ارتبطت بالعرق والسجية وطبائع الشخصية، وهذا ما سماه عبد الله العروي بالمعنى الخلقي(3)، كما تستخدم كلمة حر وصفًا للمعادن النفيسة بمعنى أنها أصلية نقية خالصة من أي شائبة، وهو ما عبر عنه علال الفاسي بقوله: «إن الحر ضد الزائف، فالإنسان الحر هو غير الزائف أي الذي تتصور فيه الفطرة الإنسانيّة متغلبة على الطبيعة الحيوانية»(4).

أكد الطاهر ابن عاشور على هذا المعنى للحرية، المعروف في كلام العرب كنقيض للعبودية، ولذا بيَّن أن المقصود من القاعدة الفقهية «الشارع متشوف للحرية» هو أنَّ من أهم مقاصد الشريعة «إبطال العبودية»(5). ثم اشتق ابن عاشور من هذا المعنى معنى ثانيا للحرية «وهو تمكُّن الشخص من التصرف في نفسه، وشؤونه كما يشاء دون معارض»(6). تحت هذا المعنى يفهم ابن عاشور «حرية الأقوال» التي هي «التصريح بالرأي، والاعتقاد في منطقة الإذن الشرعي»، أي أنه يُقيِّد حرية الرأي بإطار أحكام الشريعة مما يجعل تلك الحرية فضفاضة بلا تعريف محدد وقد لا تسري على غير المسلم، خاصة وأن ابن عاشور يستدل على حرية الرأي بقوله تعالى «وَلْتَكُن مِنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِوَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (آل عمران 3: 104)(7)، وبالحديث النبوي «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيديه، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»(8). فمن جانب يمكن فهم «الأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» كنوع من حرية التعبير والتصريح بالرأي ولكنه قاصر على المسلمين، فالمأمور به في الآية المسلمون، ولكن ماذا عن حرية الرأي لغير المسلم في دولة حديثة؟ هل يسري عليه نفس حكم الحرية حتى لو دعا لمعروف لا يقره المسلمون ويدعون لغيره أو لنقيضه(9)؟

يؤكد ذلك ما ذكره عبد الله العروي من أن حُكام الدول الإسلاميّة وفقهاءها لم يكونوا يفهمون ما يقصده سفراء الغرب بالحرية التي يطالبون بها لرعاياهم، ويضرب مثلا على ذلك بأن المؤرخ المغربيّ الشهير أحمد الناصري لم يجد في مفاهيم الفقه الإسلاميّ، التي تعوَّد عليها طول حياته، مفهومًا يطابق ما يرمي إليه الأوربيون، بمفهوم الحرية، أي بمعنى عام «المجتمع العربيّ الإسلاميّ كان لا يفهم من كلمة حرية ما تفهمه أوربا الليبرالية»(10).

الظاهر أن مفهوم الحرية في الفقه وعلم الكلام(11) يدور كما قال العروي «حول الفرد وعلاقته مع نفسه وخالقه وأخيه في الإنسانية» فهو معنى قانوني أخلاقي، أما مفهوم الحرية الحداثي الموروث من القرن التاسع عشر فيدور «حول الفرد الاجتماعي، أي الفرد كمشارك في هيئة إنتاجية»(12) فالمجال التنظيمي الإنتاجي كان هو محل اهتمام الليبرالين، وهذا المفهوم هو الغائب في اللغة العربيّة الكلاسيكية. فالفرق إذن «بين حرية نفسانية ميتافيزيقية، يتناولها الفكر الإسلاميّ بالتحليل، وبين حرية سياسية اجتماعية، ينكب عليها الفكر الليبرالي ويحصر فيها كل تساؤلاته ومناقشاته»(13).

إلا أن العروي ينبه على ضرورة البحث عن مفردات أخرى في التراث الثقافي العربيّ حملت دلالة كلمة حرية التي لا تحمل الدلالة الغربيّة المعروفة، ويصل إلى أن «الفقه يربط مفهوم الحرية الشخصية بمفهوم المروءة، لا تكتمل الإنسانية في الفرد إلا إذا شرف بالتكليف، أي إذا أصبح قادرًا على الانضباط لقواعد وأوامر سماوية، إنَّ الطفل والمعتوه ومن شابههما يستطيعون أن يفعلوا ما يشاؤون لأنهم غير مُكلفين، حُريتهم واسعة لكن إنسانيتهم ناقصة»(14)، ومن ثم يُلاحظ العروي «ترابطًا بين الحرية والعقل والتكليف والمروءة»(15).

ويشير الخضر حسين إلى اتساع دلالة لفظ الحرية في العصر الحديث ليشمل «معنى يقارب معنى استقلال الإرادة ويشابه معنى العتق الذي هو فك الرقبة من الاسترقاق»(16). إلا أن حسين يتحدث عن أهم خصال الحرية وهي في رأيه «معرفة الإنسان ما له وما عليه» ثم يقصر هذه المعرفة على فئة العلماء، وبالتالي يقصر الحرية عليهم قائلا إن «الحرية مقصورة على علماء الأمة العارفين بواجباتها»(17)، أما الأميين فليس لهم -بحسب حسين- إلا استفتاء العلماء والاسترشاد برأيهم فهم أهل الذكر المأمور بسؤالهم.

يدل على أن مفهوم الحرية بالمعنى الحديث لم يكن حاضرا في الذهن العربيّ أنَّ رفاعة الطهطاوي الذي أدرك معنى المصطلح وعايشه في فرنسا اختار له مقابلا آخر في اللغة العربيّة وهو العدل(18) والإنصاف: «ومن الأدلة الواضحة على وصول العدل عندهم إلى درجة عالية وما يسمونه الحرية، ويرغبون فيه هو عين ما يطلق عليه عندنا العدل والإنصاف»(19). وهذا يُشير إلى أن المساواة قرينة الحرية كونها قرينة العدل، إلا أن الطهطاويوتبعه في ذلك شيخ الأزهر الخضر حسين كما سبق بيانه - تحوط في منح الحرية السياسية، بمعنى المشاركة في توجيه نظام الحكم لكل الرعية ومال إلى منحها فقط للصفوة والنخبة(20)، ولعله كان متأثرا بمستوى التعليم والوعي في عصره وعدم قدرة غالبية الشعب على ممارسة السياسية.

أثر وحدانية الألوهية على فهم الحرية والتعدديّة

نظرا لأن الإسلام دين توحيد يدعو إلى وحدانية الربوبية، والإنزواء تحت عبودية الإله الواحد، ويهدف إلى إخضاع البشرية قاطبة إلى عبادة معبود واحد لا شريك له، فيبدو أن ذلك عمل على تجذر فكرة في اللاوعي عند المسلمين بأن التوحيد والوحدة هما صبغة المجتمع المسلم، فلا يجوز إلا أن يوجد إمام واحد في ظل خلافة الإمام الواحد، ومن ثم حزب واحد للمسلمين، أو وحدانية في الفكر تنتج عن وحدانية العقيدة، ومن ثم تُصبح الحرية مرتبطة بتلك العقيدة لا غيرها فهمًا وممارسةً، ولعل هذا كان سببًا في إدراج الخلافة والإمامة في العقائد كما يشير علي عبد الرازق؛ حيث أصبحت «الخلافة تلصق بالمباحث الدينية، وصارت جزءًا من عقائد التوحيد، يدرسه المسلم مع صفات الله تعالى وصفات رسله الكرام، ويلقنه كما يلقن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله»(21).

في هذا السياق يعرض محمد عابد الجابري تصور الفيلسوف الفرنسي مشيل فوكو (1926-1984) عن الراعي والرعية، ويخلص لفكرة أن الراعي في البلاد العربيّة يتسم بالوحدة شبه الإله الواحد، فكما أن تعدد الآلهة شرك وكفر، فكذلك تعدد الرعاة، وهذا يعني أن مصطلح التعدديّة يستخدم كشعار أجوف لا قيمة له طالما أن التعدديّة لا تترجم إلى مقاسمة حقيقية في الحكم(22).

وفي مثل هذا الجو الفكري ليس بمستغرب أن يُنظر إلى الخروج من الدين الإسلاميّ إلى أي دين آخر نظرة دينية بحتة تجعل ما اشتهر من عقوبة المرتد بالقتل حدًا دينيًّا ثابتًا عِند السواد الأعظم من الفقهاء، حدًا لا يتعارض في فهمهم مع حرية العقيدة، لأن العقيدة واحدة فقط، ولا يرتبط بالسياسة ومفهوم الخروج على الجماعة والمجتمع أو الدولة بالمعنى الحديث، ولو أنَّ هؤلاء نظروا إلى التوحيد على أنه صفة لله وحده وما عداه من مخلوقات وكائنات وعقائد وملل ومذاهب وأفكار ورؤى وتوجهات صفتها اللازمة هي التعدد والاختلاف، لساروا بالفقه وأحكامه في مسار آخر، ولانتهوا إلى نتائج أخرى، إلا أن ربط الوحدانية الإلهية بوحدة العقيدة والحكم والمنهج والحزب أثرت على فهم الحرية والتعدديّة كما سنحاول بيانه فيما يلي.

مفهوم التعدديّة بين التقييد والإطلاق

لا ننطلق في هذه الدراسة من التعدديّة الدينية فقط، أي بمعنى قبول الآخر المختلف دينيا والإقرار له بكافة حقوقه في إطار من المساواة والانخراط في نظام قانوني ودستوري واحد(23)، وهو المعبر عنه بالمواطنة، ولكن أيضا بمعنى قبول الآخر والاعتراف بحقوقه بشكل عام، سواء دان بدين أو لم يدن، وهذا الاعتراف يفترض ضمنا الإقرار بالحرية للآخر، بكونه إنسانا بغض النظر عن دينه وجنسه ولونه، أي أن «مفهوم التعدديّة الدينية هنا يقوم على أساس الاعتراف بالآخر وعدم إقصائه تحت أي صورة من صور الإقصاء، والعمل على تطبيق مبدأ المساواة بين الجميع تحت مظلة القانون»(24).

ولو نظرنا من هذا المنطلق لتعاطي كثير من المفكرين المسلمين أو الإسلاميّين(25) مع مفهوم التعدديّة سنجد أنهم قصروها على التعدد داخل الدين الواحد وهو هنا الإسلام، بحيث تكون هناك أحكام دينية شاملة سارية على الجميع، مع السماح بنوع من التعدد من داخلها، إلا أن الملاحظ أن هذا التعدد لن يقر للجميع بالمساواة في الحقوق والواجبات والحريات كشرط من شروط التعدديّة، فمثلا يرى المفكر المصري محمد عمارة (1931-2020) أن «الرؤية الإسلاميّة قد قصرتالوحدة’، التي لا تركب فيها ولا تعدد لها على الذات الإلهية وحدها، دون كل المخلوقات والمحدثات والموجودات، في كل ميادين الخلق المادية والحيوانية والإنسانية والفكرية، تلك التي قامت جميعها على التعدد والتزاوج والتركب والارتفاق»(26). بعد ذلك يشترط عمارة أن تكون التعدديّة موزونة بميزان الوسطية الإسلاميّة أي «لابد أن تكون تَمَيُّزًا لفرقاء يجمعهم جامع الإسلام، وتنوعًا لمذاهب وتيارات تظللها مرجعية التصور الإسلاميّ الجامع، وخصوصيات متعددة في إطار ثوابت الوحدة الإسلاميّة»(27).

وتأكيدًا لفهم التعدديّة فقط داخل الإطار الإسلاميّ يُقرر عمارة: «وهكذا ظللالجامع الإسلاميّ’ الذي وحد الأمة والعقيدة والحضارة ودار الإسلام(28)، ظلل تعدديّة في اللغات والأقوام، وفي الثقافات الفرعية، وفي الأوطان والأقاليم المتميزة، وفي الفرق السياسية، وأيضا في الشرائع والحضارات، فازدهرت تعدديّة الاجتهادات البشرية، في إطار الجامع الثابت الذي تمثل في أصول الإيمان بالله الواحد، واليوم الآخر، وخبر الصادق عليه الصلاة والسلام»(29).

ويتخذ عمارة من صحيفة المدينة دليلًا على إطار جامع لأمة واحدة ودولة واحدة، ذات مرجعيّة واحدة، تعددت فيها «الانتماءات القبلية والدينية، ونظم الدستور علاقات فرقاء هذا الانتماء»(30). والاستدلال بصحيفة المدينة على التعدديّة بمعنى المساواة فيه تعسف كبير، فرغم أن الصحيفة تُعد قفزة تاريخية معتبرة في خلق صيغة تعايش سلمي بين المختلفين، إلا أنها لا يمكنها القفز على قرون من تطور صيغ التعايش التي وصلت إلى المساواة التامة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن الدين أو الجنس، بحيث يحق لغير المسلم وللمرأة تولي الحكم، ولا يمثل دين جماعة ما مرجعية سياسية ملزمة لبقية الجماعات، بل هناك دستور يشارك في صياغته الجميع على اختلاف مرجعياتهم ويتحاكم إليه جميعهم، بينما نجد صحيفة المدينة ترجع مرد التحاكم في الاختلاف «إلى الله وإلى محمد رسول الله»، كما أنها قامت على التعاون القبلي، أي انطلقت من مفهوم التناصر بين القبائل، وهو مبدأ مقبول ومنطقي في سياق صياغة الصحيفة، ولكنه لم يعد مقبولا في نظام الدولة الحديثة، الذي لا يقوم على مفهوم القبيلة بل على مفهوم الشعب، فضلا عن ذلك نجد الصحيفة تنص على أنه «لا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر، ولا ينصر كافرا على مؤمن» وهذا مبدأ يقوم على أفضلية الدماء بحسب الدين، أي أن دم المسلم أفضل من دم غير المسلم، وهذا مبدأ مفهوم أيضا في سياقه، ولكنه يتنافى مع المواطنة التي تقر بالتساوي بين المواطنين أمام القانون، أي كفاءة الدم بالتعبير السياسي الإسلاميّ(31)، وهنا نجد أنفسنا أمام إشكالية كبيرة يعاني منها العقل المسلم، وهي إشكالية التوظيف القسري للمفاهيم السياسية سواء التي تشكلت في تاريخه هو وحضارته، أو في التاريخ السياسي للحضارة الغربيّة، وهذا التوظيف يفتقد بوضوح لإدراك السياقات المختلفة لنشأة هذه المفاهيم والوعي بها وتفكيك بنيتها التاريخيّة.

يواصل عمارة ربط التعدديّة بالدين الإسلاميّ وحده، وبتاريخ المسلمين دون تمييز حسنه من سيئه، فيذهب إلى أن الانشقاقات السياسية والصراعات المسلحة في إطار «وحدة الأمة الإسلاميّة» تعتبر نوعا من التعدديّة لأنها حافظت على «الجامع الديني» ولأنه قتال على «التأويل» وليس على «التنزيل» مثل معارك الفتنة الكبرى التي لم تخرج المسلمين من الأمة ولا من الملة ولا من الدولة(32) وكأن التعدديّة التي هدفها تحقيق السلم والسلام بين المختلفين لا قيمة لها ولا للخلاف ولا لفقد الحياة نتيجة الخلاف طالما ظل القاتل والمقتول مسلما، بل إنه يذهب إلى أن الإذن بقتال المشركين كان من باب «التدافع» الدال على التعدديّة فغاية القتال في نظره «تعديل مواقف المشركين من مواقع الشرك إلى الإيمان، فهي حراك لا نفي وإهلاك»(33). فبدلا من أن تكون التعدديّة هي قبول الآخر المختلف دينا كما هو، والإقرار له بكافة حقوقه في إطار من المساواة والانخراط في نظام قانوني ودستوري واحد(34)، يصبح إكراه المشرك على الإيمان تعدديّة عند عمارة الذي عايش القرن العشرين والواحد العشرين(35).

الحرية والمساوة كشرط للتعدديّة

مبدأ المساواة يعد ركيزة للحقوق وأساسا لكل الحريات، لذا فهو يمثل «حجر الزاوية في كل تنظيم ديمقراطي»(36)، واعتبر شيخ الأزهر الأسبق الخضر حسين (1876-1958) أن الحرية تقوم على قاعدتين أساسيتين وهما «المشورة والمساواة»(37) لأن «بالمشورة تتميز الحقوق وبالمساواة ينتظم إجراؤها»، وعلى ما لهذين الشرطين من أهمية قصوى في الحرية، وبخاصة الحرية السياسية، إلا أن الخضر حسين لم يحدد دور المشورة وإلزاميته للحاكم، أو دورها في اختياره من الأساس مما يجعلها معبرة عن الحرية، بل إنه مال إلى دور استشاري غير ملزم للمشورة، وكذلك في المساواة لم يبين تطبيقها عند اختلاف الدين أو الجنس واكتفى بأمثلة وعظية انتقائية من التراث تبين تأكيد الخليفتين أبو بكر بن الصديق وعمر بن الخطاب على تساويهما مع الرعية(38). يتضح من كلام الخضر حسين أن المساواة في الحقوق خاصة السياسية بمعنى المشاركة في الحكم غير متحققة، مما يجعل الحرية بالتبعية منقوصة فانتفاء الشرط يتبعه انتفاء المشروط.

من جانبه يعتبر الطاهر ابن عاشور (1879-1973) المساواة مقصدًا للشريعة بجانب الحرية ولكنه في حديثة يربط المساواة بالدين، أي أن المساواة واجبة بين المسلمين بحكم أنهم إخوة في الإيمان بناء على قوله تعالى «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» (الحجرات 49: 10) وتأسيسًا على أن الإسلام هو دين الفطرة، فلسياسة الإسلام أن تحكم بالتساوي بين فئات أو عدمه بين أخرى بحسب ما تقتضيه الفطرة(39). والغريب أن ابن عاشور يعتبر الحرية مقصدًا من مقاصد الشريعة إلا أنه يقر بسلب «العبد أهلية التصرف في المال إلاَّ بإذن سيده»(40) وكأنه يقر بقبول العبودية، التي يراها مانعًا معتبرًا من المساواة، في القرن العشرين. ويزيد على ذلك في حديثه عن عوار أي موانع المساواة والتي قد تكون دائمة مثل «عدم مساواة غير المسلمين من أهل ذمة الإسلام للمسلمين في بعض الحقوق مِثْل، ولاية المناصب الدينية»، ويبرر ذلك بأن «صلاح الاعتقاد من أصول الإسلام، فيكون اختلالُ اعتقادِ غير المسلم موجِبًا انحطاطَهُ في نظر الشريعة عن الكفاءة لولاية أمور المسلمين»(41)، ثم يسحب ابن عاشور عدم المساواة هذه على منع غير المسلم من إرث قريبه المسلم وعدم مساواته في القصاص والشهادة(42). كما أن ابن عاشور يعتبر اختلاف الجنس من «الموانع الجبلية الدائمة» التي تعود إلى «أصل الخلقة»، فلا تتساوى المرأة مع الرجل في «إمارة الجيش والخلافة عند جميع العلماء»(43).

ويظهر هنا بوضوح أن ابن عاشور، الفقيه المقاصدي وابن القرن العشرين، لا يساوي بين المسلم وغير المسلم من جانب، ولا بين الرجل والمرأة من جانب آخر، لا في الحقوق ولا في الواجبات، بل إنه ذهب إلى أن اختلاف الجنس مانع جِبلي دائم، أي أن المرأة محكوم عليها بعدم المساواة للأبد، دون أن يرتبط ذلك بخلفية ثقافية، أو بمستوى تعليمي أو بمقدار الكفاءة والخبرة والتجربة(44)، ومن ثم فالمساواة غير متحققة، وبالتالي فالحرية أيضا غير متحققة، أو على أقل تقدير منقوصة.

حرية العقيدة والتعدديّة الدينية

إنَّ الناظر إلى نصوص القرآن والسنة يجد أن من مقاصدها(45) إتاحة الحرية في الرأي والفكر والعقيدة، وجميعها في رأينا وثيق الصلة ببعضها البعض، كما أن الحرية كما سبق ذكره مرتبطة بالتعدديّة، ولا يمكن تصور تعدديّة بلا حرية، ويربط علال الفاسي بين حرية الدين وحرية الفكر فيقول: «ومن لوازم حرية الدين حرية الفكر. فللناس جميعا الحق في أن يفكروا إزاء كل مسألة على الطريقة التي يختارونها وبالفكر الذي يريدونه، وليس لأحد أن يكرههم على اعتقاد مذهب فلسفيّ أو سياسيّ إذا كانوا لا يختارونه لأنفسهم وكل من فعل ذلك فقد أخلَّ بأعظم المقدسات»(46). ويظهر ذلك جليا في وصفه القرآن الكريم لإحدى وظائف النبي صلي الله عليه وسلم قائلا: «وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ» (الأعراف 7: 157)؛ أي أنَّ من مقاصد رسالة النبي رفع الأغلال عن البشر ومنحهم الحرية والإرادة.

إلا أن الحرية وبالتبعية التعدديّة تعرضت عند كثير من الفقهاء عبر التاريخ إلى التقييد، وارتبط ذلك بنظرة الفقيه لعلاقة الدين بالمجتمع، حيث كان ينظر إلى الدين بوصفه الرابط الجديد الذي يربط بين أتباعه بعد أن كانت تربطهم القرابة الأسرية أو المصاهرة أو التحالفات القبلية في حقبة ما قبل الإسلام التي تعرف بالجاهلية، وكما كان الانضمام للقبيلة والخضوع لرأي زعيمها يمثل نوعا من الحماية والأمن لأن في الخروج على ما تراه القبيلة انعزالا وفردية تغري الطامعين في الفرد وماله وعرضه، قياسا على ذلك كان مخالفة ما يراه أتباع الرابط الجديد، وهو الدين، فقدانا لحماية هؤلاء الأتباع من جانب،«فلا أمان لشخص في الصحراء خارج إطار قبيلته»(47) وترتب عليه من جانب آخر تولد خوف عند الأتباع من هذا المارق الذي قد ينضم إلى العدو بحثا عن العزوة والحماية.

من الطبيعي تاريخيا ألا تعرف الثقافة العربيّة مفهوم المجتمع الذي يتكون من اتحاد جماعات مختلفة أو متعددة التوجهات الدينية والعرقية داخل إطار قانوني وتشريعي واحد يسري على الجميع في ظل دولة دستورية، أما ما كان معروفاوربما مستمرا إلى الآنفهو مفهوم الجماعة متحدة الأصل والفكر، التي تتميز بالترابط فيما بينها بالحب والشرف والنسب والجاه، وكانت القبيلة تمثل الشكل أو الكيان الترابطي للجماعة، والخروج على أعراف وتقاليد القبيلة يسقط الحماية كما يخل بشرف القبيلة، وعقوبة جرح الشرف كانت القتل في كثير من الثقافات والحضارات، حتى أن جرائم الشرف معروفة حتى الآن وتقتصر على قتل الأنثى دون الرجل مع أنه مشارك في الفعل، ذلك لأن وحدها الأنثى هي التي لطخت شرف العائلة بخروجها عن تقاليدها في الزواج. يستخدم العروي مصطلح العشيرة كمفهوم جامع لكل «جماعة، أكانت عائلة أو قبيلة أو حرفة أو حيًا أو زاوية، تحتضن الفر وتحميه من أذى الغير (...) إن العشيرة تجسد العادات والعادات مفروضة على الفرد وملزمه له، فهي إذن تحد من مبادراته»(48)، و«كلما استظل الفرد بالعشيرة يزداد قوة وطمأنينة، وكلما استقل بذاته ضعف واستُعْبِد»(49).

يلاحظ محمد عابد الجابري على مضمون ما يعرف حديثا بالحرية الفردية أن الفرد في المجتمع القبليّ لم يكن يُمارس قرارًا فرديًّا؛ لأن الفرد هناك يجد «هويته وشخصيته ومكانته في قبيلته وبواسطتها، فالخروج من القبيلة أشبه بالانتحار. ولا يمكن لمن ينسلخ من قبيلته أو يقوم بعمل يتحداها به، لا يمكنه أن يعيش بمفرده بل لا بد له من الانتماء إلى قبيلة أخرى بالحلف أو الولاء»(50)، ومن ثم كان دين الإسلام رابطًا جديدًا يحفظ لجماعته روابط التضامن والحماية التي كانت تُوفِّرها القبيلة(51)، ولذلك فإنَّ «العقيدة» بمثابة «قبيلة روحية» للمؤمنين تُوفِّر لهم ما كانت توفِّره القبيلة من تضامن وتكافل واطمئنان نفسي، وهذا هو ما يُمثل مضمون مفهوم الأمة الذي قدَّمته الدعوة الدينية الجديدة(52) بديلًا عن القبيلة، فالأمة مشتقة من الأَمّ بمعنى القصد والاتجاه، ومنها جاء الإمام أيضا الذي يؤم الناس ويتبعونه في اتجاه ولقصد معين، أي أن العلاقات في الأمة لا تقوم على النسب مثل القبيلة، ولكنها تقوم على التشارك في القصد والاتجاه خلف إمام وقائد معين(53)، أضف إلى ذلك معنى الأم كأصل تنبثق منه الجماعة، فبدلا من الانتساب إلى شخص مؤسس القبيلة أي أمها، أصبح الانتساب إلى الإسلام بوصفه الأم والأصل الجديد للانتماء، في هذا السياق يصف الأنثروبولوجي إرنست جلنر Ernest Gellner (1925-1995) القبيلة قائلًا: «إن القبيلة بديلٌ للدولة وصورةٌ لها أيضا، وهي حدُّها وبذرةُ دولةٍ جديدة»(54)، كما يخلص الجابري إلى أن «العقل السياسي العربيّ كان يتحدد في العصر الجاهلي بالقبيلة والغنيمة أساسًا، وفي عصر النبوة بالعقيدة أولا»(55).

مما تقدم نفهم أن الخوف من الفرقة والتشتت اللذان قد ينتجان من تعدد الآراء، وما قد يترتب عليه من تعدد في المذاهب يضر بفكرة الدين الرابط الجديد، كان السبب وراء تقييد حرية الرأي أو العقيدة، وهو ما أدى إلى ظهور فكرة الطاعة للإمام بارًا أو فاجرًا مخافة الفتنة واعتبار تلك الطاعة جزءا من العقيدة(56)، أي أن الظرف التاريخي جعل الفقيه وكذلك المفسر يضع مقصدًا أمامه وهو حماية جماعة المسلمين من التشتت والفرقة بوصفهما مفضيان للفتنة التي يجب تجنبها بشتى الطرق، ورغم أن مخافة الفتنة بمعنى الحرب الأهلية لا غضاضة فيها فحياة الإنسان مقدمة على ما سواها، إلا أن المبالغة في هذا الخوف أعاقت العقل العربيّ الإسلاميّ عن محاولة العمل الحثيث على إيجاد صيغة توفيقية أو توافقية تكاملية بين تجنب الفتنة وتحقيق الأمن من جانب، وبين حفظ الحرية والتناغم داخل التعدديّة من جانب آخر، وهنا تبرز أهمية مفاهيم مثل الإجماع وما يراد به من المحافظة على الجماعة المقدمة على الفرد وحريته.

بالعودة إلى منهج تقسيم الإسلام الوارد في إشكالية الورقة إلى إسلام النظرية/ النص وإسلام الممارسة، نجد أن النص القرآني المتسامي، المفارق للطبيعة، يؤكد على أن حرية العقيدة غير مقيدة، وأنه لا إكراه في الدين، وأن من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر (الكهف 18: 29وأن ما يعبده الكافرون هو دين أيضا (الكافرون 109مما يدل على الإقرار بوجود التعدديّة الدينية وقبولها، كما أن العقاب القرآني لمن بدل دينه ليس دنيويا، أما الحديث النبوي -بشري المصدر- المتكون في التجربة الاجتماعية والسياسية والتاريخية والمعبر عن إسلام الممارسة، فنجده يتعاطى مع واقع المجتمع آنذاك ويضع عقوبة دنيوية للمرتد على اعتبار أن الخارج من الدين ليس خارجا من الجماعة فقط، بل خارجٌ عليها أيضا؛نظرًا لأنَّ الدين الإسلاميّ في طور نشأته شكَّل -كما بيَّنا- رابطًا جديدًا بين أتباعه وبديلًا عن القبيلة التي كان يمثل الخروج منها خروجا عليها، وعليه يكون ما نطق به الرسول الكريم في شأن عقوبة المرتد مرتبطا بتعرض أمن الجماعة -أو المجتمع بالمعنى الحديث- واستقرارها للخطر، وليس بالعقيدة في حد ذاتها، أي أن عقوبة المرتد المعروفة لا تتعلق بالعقيدة من الأساس، بل هي عقوبة سياسية ارتآها الحاكم مناسبة لظرف تاريخي معين، ومن حق حاكم أو مشرع آخر أن يرى ضرورتها أو لا، فيعدلها أو يقيدها أو يسقطها(57).

وتشير كلمات الخضر حسين بوضوح إلى أن عقوبة المرتد ترجع إلى أسباب اجتماعية سياسية وليست عقدية دينية: «وإنما جبر المرتد على البقاء في الإسلام حذرًا من تفرق الوحدة واختلال النظام فلو خلي السبيل للذين ينبذون الدين جهرة ونحن لا نعلم مقدار من يرد الله أن يضله نخشى من انحلال الجامعة وضعف الحامية (...) ثم إن لك أمة سرائر من حيث الدولة لا ينبغي لها أن تطلع عليها غير أوليائها ومن كان ملتبسا بصفة الإسلام شأنه الخبرة بأحوال المسلمين والمعرفة بدواخلهم، فإذا خلع ربقة الدين وقد كان بطانة لأهله يلقون إليه سرائرهم اتخذه المحاربون أكبر مساعد وأطول يد يمدونها لنيل أغراضهم من المؤمنين، هذا تأثير أهل الردة على الإسلام من جهة الدولة والسياسة»(58).

في سياق الحرية بشكل عام وحرية العقيدة بالتحديد نرى ضرورة التعريج على قضية الكليات الخمس، التي اعْتبرت مقاصدًا للشريعة، وبيان أن هناك تعارضًا في داخلها يتسبب في تقييدٍ للحرية العقدية، وبالرغم من أن طه عبد الرحمن كان قد اعترض بقوة على ترتيب مقاصد الشريعة بالأساس، من ضروريات وحاجيات وتحسينيات، لانطلاقها من كون مكارم الأخلاق من القيم التحسينية التكميلية، وهي التي يجب أن تكون من الضروريات في نظره، كما اعترض أيضا على حصر الكليات في خمس فقط ورأى ضرورة إدخال قيم أخرى مثل حفظ العدل وحفظ الحرية(59) وحفظ التكافل، ثم انتقد تخصيص حفظ الدين بوصفه قيمة من قيم الشريعة -أو مقصدا من مقاصدها- مع أنها تساويه أو هي جزء منه،(60) ولكنه بالرغم من ذلك لم يتطرق لفكرة أن المقصود بالدين المراد حفظه هو الإسلام وليس دين آخر، ولذلك نجد التيارات الإسلاميّة ترى من واجبات الدولة «حراسة الدين»،(61) وتعني بذلك الإسلام دون غيره، لأنها لو قصدتفرضا - حماية الدولة لكل دين دون تمييز، لأصبحت علمانية الفكر، وعلى ذلك تتعارض كلية حفظ الدين الإسلاميّ وحده أولا مع قيمة حفظ العقل، الذي قد يختار اعتناق دين آخر، مما يعني أن الكليات الخمس متعارضة من داخلها لو نظرنا إليها بمنظور الحرية العقدية كحق من حقوق الإنسان، وبالتالي تتعارض الكليات الخمس مع مبدأ الحرية نفسه، فعندما يقتصر حفظ الدين على حفظ الإسلام، تصبح حرية العقيدة مقصورة ومقيدة به، وهو ما يعارض القاعدة الأساسية في حرية العقيدة وهو كونها مطلقة.

الحرية ومفهوم الشرف

رغم أن الشّرف ليس مُصطلحًا إسلاميّا صرفا، ولكنه مرتبط بالثقافة الإسلاميّة العربيّة بشدة، ذلك لأن الإسلام نشأ في ثقافة عربيّة تحكمها أعراف وتقاليد راسخة، واستمرت تلك الأعراف إلى حد كبير، حتى في ظل محاولات التحديث المتعثرة التي جرت في حقبة النهضة العربية في القرن التاسع عشر وما يليه، ومن ثم تختلط هنا الثقافة بالدين والسياسة، بحيث يمكن وصف الحداثة العربية بالشكلية، التي يتشابه مضمونها مع عصر ما قبل الحداثة الغربي، مما يجعل المقارنة بين الثقافتين العربية والغربية سارية أكثر على البنية الفكرية منه على التزامن في الأحقاب(62)، وعليه عندما ننظر للثقافة الغربيّة وتحولاتها بعد مرورها بتجربة الحداثة وتشكل النزعة الفردانية، التي أعلت من قيمة الحرية الفردية، بكل ما يحمله ذلك من إيجابيات وسلبيات، نجدها تفهم الشّرف على أنه التقدير الذي يحظى به الإنسان فقط بسبب كونه إنسانًا وما يرتبط بذلك من كرامة إنسانية كحق طبيعي تكفله حقوق الإنسان والدساتير، ومن ثم تعتبر المجتمعات الحديثة ذات النزعة الفردية شرف الفرد ومكانته الاجتماعية محصلة لمنجزاته ونجاحاته الفردية، في حين ما زال الأهم في الثقافة العربيّة الإسلاميّة هو مكانة فرد القبيلة أو الأسرة أو الدائرة المحيطة ووجاهته الاجتماعية، ليس كفرد مستقل بذاته، ولكن كعضو فيها وممثل لها، وهو يكتسب مكانته الاجتماعية من أصوله وانتمائه القبلي، وعليه كان الشرف هو رأس مال العائلة ثم القبيلة، ويمثل لها الوجاهة التي تتمتع بها في المحيط العام، ولذلك كان على الفرد أن يضبط سلوكه في العلن بما لا يضر بمكانة العائلة/ القبيلة، كما أن أعضاء القبيلة يقومون بمراقبة سلوك الأفراد العلني بالتبادل، للحفاظ على الشرف بوصفه قيمة جماعية مشتركة(63).

ولأن الرجل، أبا كان أو أكبر العائلة سنا، يمثل العائلة في الحياة العامة، فهو حامل الشرف، بينما أصبحت المرأة بوصفها تابعة للرجل مرتبطة بمفهوم الشرف الذي فرضته الأعراف والتقاليد، أي أن المرأة باتت في مسؤولية الرجل من حيث سلوكها، ونظرا لأن سلوكها لا يرتبط عادة بالعلن كالتجارة وغيرها، صار سلوكها مرتبطا بما تقدمه للرجل ممثل العائلة من خدمات أهما الجانب الجنسي(64)، فأصبحت حياتها الجنسية تحت مراقبة الرجل، وتمثل شرفه وعرضه، ومن ثم عليه مراقبتها، حتى لا تضر بشرفه هو تجاه الغير(65)، ومن هنا تنشأ مسؤولية خاصة على المرأة عبر سلوكها القويم في الحفاظ على الشرف، وأصبحت العلاقة الجنسية خارج الزواج خطرًا على النظام الاجتماعي كله، وليس ممارسة لحق خاص في إطار الحرية الشخصية، لأن عار الزنا أشد من عار الكفر أو كما يقول شيخ الأزهر الأسبق إن العار الذي يصيب الفرد وقبيلته والمرآة خاصة بتهمة الزنا يتعدى العار الذي يصيبهم بتهمة الكفر، فالكفر يمحوه الإسلام أو إظهار الالتزام به، أما عار الزنا فلا تمحو آثاره الاجتماعية أي توبة(66).

من هنا نفهم خلفية تقييد الحرية الفردية للمرأة مثلًا عبر فرض وجود الولي في الزواج -تقييدًا ثقافيا أقره الدين وتماهى معه- كنوع من الرقابة على حسن اختيار الزوج الذي سيتولى حماية الشرف بعد الأب، فلابد أن يكون كفئًا لها، فرعاية الكفاءة في الزواج لا يقصد بها فقط تحقيق الشروط التي تؤدي إلى التفاهم والاحترام المتبادل ودوام العشرة بين الزوجين، بل ينسحب معنى الكفاءة على تجنب العار الذي قد يلحق أسرة المرأة من جراء زواجها بمن هو أقل منهمكفاءة، وهذا ما يؤكده شيخ الأزهر الأسبق قائلا: «فإن اقتران المرأة بمن هو أدنى منها حسباً وأخفض منها حالا لا يخلو عن حطة في العادة يشملها عارها ثم يمتد إلى وليها وذوي قرابتها ويعرض بولدها لأن يلاقي من عشيرته مقتًا وهوانًا»،(67) واشتراك العائلة أو القبيلة في العار والذي يتسبب في تضييق الحريات الفردية هو نفسه سبب تحمل العائلة أو العاقلة الدية عن قريبهم المعسر في القتل الخطأ،(68) أي أن الذهنية أو العقلية الجمعية تتشارك في الغنم والغرم، ويفهم من ذلك أن الفقه الإسلاميّ حين اشترط الكفاءة في الزواج لم ينطلق من بعد ديني بقدر ما انطلق من بعد ثقافي، أي أن أحكام الشريعة التي أصلها اجتهاد فقهي، تحتاج لمراجعة خلفيات نشأتها الثقافية وسياقاتها الاجتماعية لبيان مدى ملاءمتها لسياقات اجتماعية وثقافية متغيرة.

مما سبق يمكننا أن نفهم الحرية الفردية في إطار الحقوق والواجبات حيث وجبتْ طاعة المرأة للرجل أبا أو زوجا وليس العكس، بل ربما نفهم موقف الثقافة العربيّة من المثلية الجنسية التي ترتبط في تصوري بطبيعة النظرة الاجتماعية لطرفي العلاقة المثلية وانعكاس ذلك في الذهنية على تصور الفاعل والمفعول به، لذلك فالنظرة سيئة جدا للمفعول به ومقبولة نسبيًا للفاعل، برغم أن كليهما يمارسان نفس العلاقة المرفوضة عند الغالبية دينيا وأخلاقيا، وهذا مرتبط بنظرة الثقافة العربيّة لعلاقات القوة والقهر والتحكم التي تربطها بشخص الفاعل/ المولج/ الذكر(69)، وبالتبعية نظرتها للخضوع والاستسلام والطاعة في شخص المفعول به/ الأنثى، وبالتالي تتقبل الثقافة مثلية المرأة إلى حد ما، كما أن الدين يسكت عنها ولا يذكر لها عقوبة مما يدل على تماهي أحكام الدين مع الثقافة، هذه الثقافة التي تتقبل مثلية المرأة لأنها في جميع الأحوال مفعول به، ولا تمثل الفاعل، أي أن المشكلة تكمن في تحول دور الرجل إلى المرأة/ مفعول به في العلاقة المثلية(70) ولعل ذلك يوضح لماذا يعد مجرد ذكر العضو التناسلي للأم -في بعض البلدان الأخت- مسبة كبيرة وإهانة قاسية، بينما لا يذكر عضو الأب التناسلي في سياق السب والإهانة.

مفهوم القضاء والقدر وعلاقتهما بالحرية

قضية القضاء والقدر وعلاقتهما بحرية الإنسان من القضايا الشائكة، التي لم يصل فيها العقل المؤمن في تصوري لحل قاطع، نظرًا لارتباطها بالإيمان بالله وقدرته وعلمه الأزلي، ولذا كانت مجالًا لجدالات وصراعات علم الكلام والفلسفة والتصوف(71) زمنًا طويلًا، ومن ثم لن نخوض فيها كثيرًا وسنكتفي بعرض صورة من سجالات الشيخ الإمام محمد عبده (1849-1905) مع المؤرخ والسياسي الفرنسي غابرييل هانوتو Gabriel Hanotauxا(1853-1944) بهدف بيان أن هناك تعريف وفهم للقدر داخل الإطار الإسلاميّ من شأنه أن يفتح الباب واسعًا لحرية الإنسان وإرادته في الكون المدرك.

كتب هانوتو في بداية عام 1900 مقالًا حول السياسة الفرنسية في المستعمرات الإسلاميّة، قارن فيه بين المدنية النصرانية والإسلام فيما يتعلق بذات الله والقضاء والقدر، وذهب إلى أن «اعتقاد النصارى في التثليث، وتصورهم للإله الإنسان جعلهم يعرفون مرتبة الإنسان ويخولونه حق القرب من الذات الإلهية، على حين أن العقيدة الإسلاميّة بدعوتها إلى التوحيد وتنزيه الله عن البشرية، حملت الإنسان على الضعف والوهن؛ والعقيدة المسيحية القائلة بحرية الإنسان وإرادته، دفعته إلى العمل والجد، أما عقيدة المسلمين في القضاء والقدر فحملتهم على الجمود والركود»(72)، فلما نشر «المؤيد» ترجمة المقال سارع محمد عبده بالرد عليها عبر عدة مقالات كونت فيما بعد كتابه القيم الشهير الإسلام والنصرانية.

يتلخص رأي محمد عبده في القدر بأنه من الأمور الغيبية التي ليس للعقل أن ينشغل بها لأنه لن يدركها، وبالتالي فحرية الإنسان لا تتأثر بالقضاء والقدر لأن الإنسان لا يعلم هذا القدر المخفي حتى يتقيد به في قراراته وتصرفاته، وأعطى محمد عبده تعريفا للقدر منطلقًا من الواقع واضاعًا تصورًا دقيقًا لنطاق الحرية الإنسانيّة في العمل والإبداع، فقال بعد تأكيده على أنّ مجال عمل العقل والحرية هو المدركات داخل الكون لا خارجه:

«أما البحث فيما وراء ذلك من التوفيق بين ما قام عليه الدليل من إحاطة علم الله وإرادته وبين ما تشهد به البداهة من عمل المختار فيما وقع عليه الاختيار، فهو من طلب سر القدر الذي نهينا عن الخوض فيه واشتغال بما لا تكاد تصل العقول إليه، وقد خاض فيه الغالون من كل ملة خصوصًا من المسيحيين والمسلمين، ثم لم يزالوا بعد طول الجدال وقوفا حيث ابتدأوا وغاية ما فعلوا أن فرقوا وشتتوا»(73).

فالإمام محمد عبده يرى هنا أن العقل لا يستطيع بأدواته المحكومة بحيز المدرك البحث فيما لا يدرك من الماورائيات، ويؤيد محمود شلتوت (1893-1963)شيخ الأزهر لاحقا هذا التحديد التعريفي المنهجي لنطاق البحث حين يؤكد على أن «العلم بالمسائل الغيبية» مصدره الوحي فقط وأنَّ الحس(74) لا يتناول المسائل الغيبية في حين أن العلم بأمر دنيوي ما يستلزم مقدمات عقلية تقود إلى نتائج(75)، وتأثرًا برؤية محمد عبده للسببية وعلاقتها بالقدر يعرف شلتوت القضاء والقدر ويربطهما بقانون السببية أي سنن الكون الربانية في كتابه الشهير الإسلام عقيدة وشريعة، فيقول: «وما القضاء والقدر اللذان ورد في القرآن ذكرهما، وجعلهما الناس مرتبطين بفعل الإنسان ومسلكه، سوى النظام العام الذي خلق الله عليه الكون، وربط فيه بين الأسباب والمسببات، والنتائج والمقدمات، سنة كونية دائمة لا تتخلف، وكان من بين تلك السنة خلق الإنسان حرًا في فعله، مختارًا غير مقهور ولا محجور»(76).

علاقة الاجماع بالحرية والتعددية

نظرا لمكانة الإجماع عند المسلمين بوصفه أحد مصادر التشريع في الإسلام فقد أصبح يمثل إشكالية كبرى في العقلية الإسلاميّة؛ حيث اعتبر وجوده دليلًا على اتفاق الكلمة وعدم جواز تعدد الرؤى والمذاهب، وهو ما يتضح من تعريفه الشائع بـ«اتفاق مجتهدي الأمة بعده صلى الله عليه وسلم في عصر من العصور على حكم من الأحكام»(77).

إن المشكل في نظرنا أنه لم يتم بوضوح تحديد ماهية ما أُجمع عليه، بمعنى هل المقصود بالإجماع أمور العقيدة، أم ما عداها من آراء حول فهم القرآن والسنة وأفعال الصحابة، وما ينتج عن ذلك الفهم من أحكام. وأدى عدم التحديد هذا إلى استخدام آيات قرآنية تتحدث عن العقيدة كدليل على وجود الإجماع، ووجوب العمل به مثل قوله تعالى : «وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا» (النساء 4: 115) حيث يُشير علال إلى أنَّ الآية تتوعد من اتبع غير سبيل المؤمنين، وأنَّ «سبيل المؤمنين هو الإجماع، فاتباعه إذن واجب»(78)، في حين أن الآية تتحدث عن الهداية التي هي بمعنى الإيمان بالله، وهو السبيل الذي اختاره المؤمنون، وهو ما أكد عليه الإمام محمد عبده في تفسيره لنفس الآية رابطًا لها بما قبلها على أنها تتوعد الذين «يتناجون بالشر« وهؤلاء «القوم مشاقون للرسول إذا كانوا يفعلون ما يفعلون بعد أن ظهرت لهم الهداية على لسانه«(79) ، كما أن سيد قطب نفسه (1906-1966) فسر المشاقة هنا بأن يأخذ المرء «له شقا وجانبا وصفا غير الصف والجانب والشق الذي يأخذه النبي صلى الله عليه وسلم ومعنى ذلك أن يتخذ له منهجا للحياة كلها غير منهجه، وأن يختار له طريقا غير طريقه»(80)، كما ذكر أن سبب نزول هذه الآية هو ارتداد بشير بن أبيرق والتحاقه بالمشركين بعد أن كان في صفوف المسلمين ثم اتبع غير سبيل المؤمنين.

ومن ثم تتضح الحاجة إلى ضرورة إخراج ما يمكن الإجماع عليه من العقائد من دائرة ما يختلف فيه من تعاملات بين البشر على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم، كما ينبغي مراجعة المصادر التاريخية التي تقطع بوجود الإجماع في صدر الإسلام وتُعممه على الأمة وتسوق إلى ذلك أمثلة من وقائع تاريخية بطريقة انتقائية متجاهلة جوانب كل واقعة؛ فها هو علال الفاسي مثلارغم اعتباره أحد المجددين العقلانيين في الإسلام- يؤكد على اجتماع أمة المسلمين على خلافة أبي بكر قائلا: «فاجتمع العارفون من المسلمين في السقيفة ، وتبادلوا الرأي والدليل، وأجمعوا بعد ذلك أمرهم على مبايعة أبي بكر، ثم وقع إجماع الأمة على قبول ما فعلوه، وصار الصديق خليفة للرسول غير منازَع من أحد»(81). مما يوحي بأن إجماع الأمة متحقق حتى في الأمور السياسية رغم أن بيعة أبي يبكر فيها خلاف كبير بين الصحابة وهو ما أشار إليه على عبد الرازق (ت. 1966) تحت عنوان «اختلاف العرب في البيعة» من أن سعد بن عبادة (ت. 636) الأنصاري زعيم الخزرج رفض بيعة أبي بكر قائلا: «والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي، وأخصب سنان رمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بأهل بيتي. ومن أطاعني من قومي. فلا أفعل وأيم الحق. لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي وأعلم ما حسابي. فكان سعد لا يصلي بصلاتهم ولا يجمع معهم، ويحج ولا يفيض معهم بإفاضتهم. فلم يزل كذلك حتى هلك أبو بكر رحمه الله»(82).

لقد كانت الفتنة الكبرى وما سببته من انقسام بين المسلمين فضلا عن سفك دم عشرات الآلاف منهم سببا قويا في تحريم الحزبية، وما يرتبط بها من تعددية، فُهمت على أنها سبب التشتت، وذهاب الريح، مما أدى إلى تكريس فكرة الطاعة والخضوع للرأي الواحد، وهو رأي الجماعة، التي بات نقيضها هو الفتنة مباشرة التي عرفها رضوان السيد بـ «الحالة غير الطبيعية التي يُمكن أن تحدث للأمة عند الانقسام والاختلاف»(83)، وكانت هذه الظروف وهذه البيئة الفكرية ملائمة جدا لتعميم مفهوم الإجماع على كل ما هو عقديّ أو بشريّ، بل وإدخال الإجماع في إطار مصادر التشريع التي لا يمكن التشكيك فيها، وربما كان هذا ما جعل جون ستيوارت ميل «يرى أن المجتمع الإسلاميّ غير ليبرالي ليس فقط في نظام الحكم الذي كان فرديًا واستبداديًا، بل في النظام الاجتماعي العام المؤسس على الإجماع في الرأي وعلى تحريم النقد والنقاش المفتوح»(84).

هنا نجد أن الخوف القديم من الفتنة تغلغل داخل العقل العربيّ الإسلاميّ الباطن وبقي أثرة حتى عصرنا هذا، وهو ما يتضح في كتابة التاريخ وعرضه وتدريسه بصورة أحادية انتقائية لا تثبت غير ما يُراد لها؛ وهو ما ينعكس على المستقبلين من الدارسين فيفقدهم حس الاختلاف المفضي إلى قبول الآخر والإقرار بضرورة التعددية، ولو أن التاريخ يعرض بشكل من الموضوعية، دون شيطنة المخالف، وفي إطار ضرورة تعدد الآراء، وما يمكن أن يُستفاد منها من تكاملية بين أتباع وأبناء المجتمع الواحد، لاعتاد العقل العربيّ الإسلاميّ على التعايش في ظل الاختلاف ولعمل على وضع نظرية تضمن لكلٍ حقه وتبين له واجباته.

الحرية والتعددية الاجتهادية

يمثل الحث على الاجتهاد صورة من صور الإقرار بالتعددية في إسلام النظرية؛ إذ أنه من غير المتصور أن يصل جميع المجتهدين إلى نفس الرأي في المسألة الواحدة، وإلا لما بشّر النبي الكريم المجتهد المصيب بأجرين والمخطئ بأجر، وفي هذا إقرار بتعدد الآراء وضرورة قبول رأي المخالف، حتى لو كان خطأ في رأي البعض، إلا أن إسلام الممارسة في ظل الظروف التاريخية المشار إليها سابقًا، رأى ضرورة الاقتصار على ما تم تحقيقه، ولا داعي إلى اجتهاد جديد، واشتهر بين الناس أن باب الاجتهاد قد أغلق، رغم أنه لا يعرف لهذا الغلق من قائل ولا من سند تاريخي، إلا أنه استقر في الوجدان والعقل الإسلاميّ العربيّ في مفارقة غريبة تحتاج إلى دراسة خاصة(85).

وبالعودة إلى إسلام النظرية نجد أن الحث على الاجتهاد والبحث والتقصي وإعمال السمع والبصر والبصيرة في الأمور ثابت ومستقر في النص القرآني، حيث يقول تعالى شأنه: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» (الحج 22: 46كما أن القرآن الكريم دعا إلى التجديد ومراجعة الموروث، مما قد يلتقي مع نظرية الشك الديكارتية التي قامت عليها الثورة الفكرية والحداثية في الثقافة الغربيّة، وذلك عندما ذم طاعة السادة والحكام طاعة عمياء دون تفكير في قوله: «وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا» (الإنسان 76: 67) ، أو عندما ذم تقليد الآباء واتباع أثرهم بلا تفكر: «بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ» (الزخرف 43: 22بل إن إسلام النظرية يذهب إلا أبعد من ذلك حيث يقرر ابن تيمية (ت. 1328) رغم اعتباره أحد أركان الفكر السلفي التقليدي ومدرسة النص، أن مبدأ الثواب والعقاب الإلهيين يقومان على الحرية والعقل والإرادة لأن العقل الحر هو أساس التكليف(86)، ومن ثم مثّل ما عُرف في إسلام الممارسة بغلق باب الاجتهاد معوقا أمام حرية الرأي، الأمر الذي أفقد التعددية الأرض الخصبة التي تحتاج إليها في نموها.

علاقة الأمر بالمعروف بالحرية والتعددية

تعرضنا في حديثنا عن «معنى الحرية» أول الورقة عن مبدأ «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» وهو رغم صعوبة تحديده، وخطورة سوء استخدامه على الحريات الفردية والخاصة، ورغم ضرورة ضبطه في إطار قوانين الدولة ودستورها، حتى لا يرى كل فرد نفسه مسؤولًا عن تقويم أي فرد آخر بلا رادع وحام للحريات، وبدون محدد للمسؤوليات، إلا أنه رغم كل ذلك يعد في أصله ومقصده دعوة صريحة للنقد بحرية، ومن ثم يمكن القول بأن النقد ليس جائزا فقط، بل واجبا أيضا؛ فإيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو درجة عالية من حرية النقد، وهو ما يؤخذ أيضا من حديث تغيير المنكر بطرائقه المختلفة، وفي وصفه صلى الله عليه وسلم لأفضل الجهاد بـ «كلمة حق عند سلطان جائر»(87).

إن قضية «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» ترتبط في نظرنا ارتباطًا وثيقًا بالتعددية، فتصور خيرية الأمة الإسلاميّة المطلق الذي يتبادر للذهن من قوله تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» (آل عمران 3: 110) يتعارض مع الإيمان بالتعددية، مع أن شرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدل على حرية النقد، ولكن السؤال: أي معروف يجب الأمر به وأي منكر يجب النهي عنه؟ ولو عرفنا المعروف بأنه ما تعارف عليه الناس على أنه خير لساعدنا ذلك في إقرار مفهوم التعددية؛ لأن هذا الوصف بالخيرية جعل بعض المسلمين يتصور أنه مفضل على باقي الأجناس من حيث المبدأ، وأن الجميع لابد أن ينخرط ويتوحد في منظومة المسلمين الخيرية، في حين أن تلك الخيرية ليست صفة ملازمة للجنس العربيّ الإسلاميّ، كما أن المسلمين ليسوا هم أفضل أمة من حيث أنهم ولدوا مسلمين وحسب، فهذا تفكير عنصري يتنافى ويتنافر مع التعددية ، ولكن الخيرية مرتبطة في رأينا من جانب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ارتباطا شرطيا، فإذا فقد شرط الخيرية هذا انتفت هي بالتبعية.

ومن جانب آخر لا يجب قصر مفهوم المعروف على الإيمان، ومفهوم المنكر على الكفر، أو ربط المعروف بعلم أهل الإيمان به(88)، بل من الضروري أن يشمل معنى المعروف كل ما عرف العقل حسنه عن طريق التجربة والخبرة ، وكذلك المنكر كل ما أنكره العقل وثبت سوؤه بالتجربة البشرية، والآية في تصورنا بلغت من الوضوح ما لا تحتاج معه إلى تأويل من حيث اختيار مفردات «المعروف» و«المنكر»، فمن كلمة المعروف جاء مفهوم «العرف» بوصفه أحد مصادر التشريع في الإسلام، لأن الناس إذا تعارفوا على شيء كان عرفًا، وإذا أنكروه كان منكرًا، ولعل تعدد النظر إلى ما هو معروف وما هو منكر هو السبب في تطور فكر الشافعي وفقهه من العراق إلى مصر كما يظهر في الرسالة، ولعله أيضا ما دفع الإمام مالك إلى القول بأن ما رآه أهل المدينة حسنا فهو حسن، مما دفعه إلى عدم الاستجابة للخليفة أبي جعفر المنصور في تعميم كتابه الموطأ على الأمصار(89).

بهذا المفهوم للمعروف والمنكر يُمكن النظر بشكل تعددي لأعراف الآخر وتقاليده وعاداته، لأنه تعارف على قيم أخرى أفرزت تصورات قيمية أخرى، ومن الجدير بالذكر هنا أن المدرسة الاعتزالية استنبطت من قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (النحل 16: 90) أن الأمر القرآني بفعل العدل وترك الظلم يقتضي إدراك العقل لكل منهما مسبقًا، وإلا كان من العبث المحال على الله تعالى الأمر بفعل شيء غير مدرك، وهذا يعني أن العقل يمكن أن يصل بمفرده إلى قيمة العدل عن طريق التجربة، وذلك انطلاقا من أن الحسن والقبح صفتين ذاتيتين للحسن والقبيح وليستا خارجتين عنهما، ثم أتى دور النص مُوجهًا لفعل المعلوم الجيد وترك المعلوم القبيح(90).

علاقة أمانة التكليف بالحرية والتعددية

قال تعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولً» (الأحزاب 33: 72). تعبر آية الأمانة عن الحرية التي مُنحها الإنسان قرينة للتكليف، وتلتقي دلالة الآية الكريمة مع ما قاله سارتر عن حرية الإنسان: «إن الإنسان محكوم عليه بأن يكون حرًا. إنه يحمل ثقل العالم كله على كتفه. إنه مسؤول عن العالم وعنْ نفسه بصفته نوعا متميزًا عن أنواع الكيان [الكيانات] الأخرى»(91).

وكأن الآية قد نقلت مع الأمانةِ الحريةَ إلى الإنسان، فكيف يكون الإنسان مكلفا بحمل الأمانة، وهو ليس حرا؟ وكيف لا يكون حرا والعقل والوعي والحرية شرط لكل تكليف «إذ لا قيمة خلقية ولا دينية لفعل المكره أو الجنون المقلد»(92)، وبذلك يصبح الإنسان خليفة الله في أرضه، وهو ما عبر عنه العروي في استخلاصه لمفهوم الحرية عند هيجل وفويرباخ قائلا: «الحرية هي الظاهرة الربانية (المطلق) في الإنسان. عندئذ يمكن القول إن الله هو تجسيد في سماء المثل لما يحس به الإنسان في نفسه. هذا مضمون فكرة الانسلاخ عند فيورباخ. لكن يمكن عكس المقولة على الشكل التالي: الحرية هي لمسة إلهية في قلب الإنسان. فيصبح الرب الخالق هو أصل حرية الإنسان»(93).

هذا المطلق أو اللمسة الإلهية في الإنسان هو ما استشعره رفاعة الطهطاوي وعبر عنه بلغة دينية فقال: «الحرية الطبيعية هي التي خلقت مع الإنسان وانطبع عليها فلا طاقة لقوة البشرية على دفعها بدون أن يعد دافعها ظالما»(94)، وهنا يوفق الطهطاوي بين النظرة الغربيّة القائلة بأن الحرية حق طبيعي للإنسان لا يرتبط بخالق، وبين العقيدة الإسلاميّة القائلة بخلق الإنسان وما يملك.

إلا أن السياسي والمفكر التونسي المعاصر وزعيم حركة النهضة الإسلاميّة راشد الغنوشي يرفض هذا التوفيق وينفي أن تكون الحرية حقا طبيعيا في التصور الإسلاميّ، «فإن تصُّور الإسلام للحرية لا ينطلق من طبيعة للإنسان تنبثق عنها بذاتها حقوق طبيعية كما ادعى الفكر الغربيّ»(95). رغم هذا النفي للحق الطبيعي كصفة للحرية يؤكد الغنوشي على معنى الاستخلاف الوارد في آية الأمانة فيقول: «وإن الإنسان خُصَّ من دون الكائنات بالاستخلاف بما استحفظ عليه من أمانات العقل والإرادة والحرية والمسؤولية والمنهج الإلهي المنظّم لحياته»(96). ويمكن مُلاحظة تعارض ما بين نفي الغنوشي لفكرة الحق الطبيعي وبين إقراره بأن الحرية هي من الأمانات التي استخلف عليها الإنسان، ومعروف أن عملية الاستخلاف القرآنية سابقة لخلق الإنسان على الأرض، أو بالأحرى مصاحبة لعملية الخلق، مما يدل على أن الحرية مخلوقة معه وجزء من طبيعتيه كما قال الطهطاوي، ويبدو أن الغنوشي أراد بنفي الحق الطبيعي مخالفة الفكر الغربيّ بداية، حتى يوحي بأن التصور الإسلاميّ -كما يفهمهمتفرد، ولا يحتاج لأفكار مستوردة، وهذا ما يفعله غالبية الإسلاميّين، حتى لو أيدوا أفكارا غربيّة بشكل ضمني.

في السياق نفسه يفصل الغنوشي بين تكريم الله للإنسان بالحرية والإرادة وبين فعل الإنسان ما يشاء، فالتكريم عند الغنوشي يعني الطاعة، والاستجابة لنداء العقل والفطرة وهو الإيمان والالتزام بالأحكام؛ فذلك النجاة(97)، ومع أنَّ هذا قد يكون مفهومًا من داخل إطار الدينرغم تفاوت العقول في فهم الشرائع وأحكامهاإلا أن الغنوشي هنا يقصر الحرية على المسلمين، ويبشرهم هم وحدهم بالنجاة، في حين أن آية الاستخلاف تتحدث عن الإنسان -كخليفة لله في الأرض- مجردًا من أي انتماء.

أما آية الأمانة، التي تعلي من مكانة الذات البشرية، وتعبر عن مركزية الإنسان في الكون، فتتوافق دلالتها في نظرنا مع الأساس الذي قامت عليه الليبرالية وعرفه العروي بأنه هو «مفهوم الذات الذي يميز الفلسفة الغربيّة الحديثة جميعها، إذ ينطلق التحليل الفلسفي الغربيّ من الإنسان باعتباره الفاعل صاحب الاختيار والمبادرة. هذا هو أصل الإنسية الغربيّة كما عبرت عن ذاتها في ميادين الفن والأدب والعلم والسياسة، وهو منطلق الفلسفة اليونانية السقراطية»(98).

إن آية الأمانة تتحدث عن الإنسان دون تحديد جنس أو دين ومن ثم فالإنسان هو المستخلف(99) والمكلف، والحرية حق طبيعي مخلوق معه، لا يسلبه عنه انتماؤه إلى دين أو إلى أي فكر آخر، فهو مكرم «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ» (الإسراء 17: 70) دون ارتباط بجنس أو دين، وهذا جوهر التعددية، وطالما عمل المستخلف على إعمار الكون فقد عبد الله، تلك العبادة التي خلقها الله من أجلها: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (الذاريات 51: 56فالعبادة ليست فقط الطقوس الدينية، بل تحقيق مراد الله في كونه وهو شرط الخيرية، فالتعددية الدينية هي التفاعل والتدافع والتكامل -بوعي أو بدون وعي أو بشكل مباشر أو غير مباشر- بين كافة الأديان، أما التعددية بشكل عام فيها التدافع والتكامل بين كافة البشر باعتبارهم خلفاء الله في أرضه من المنظور العقائدي، أو إخوة وشركاء في الإنسانية من منظور غير إيماني.

 خاتمة ونتائج

لقد سعت الورقة لإثبات أهمية مراعاة الفرق بين إسلام النظرية وإسلام الممارسة، وأن إسلام الممارسة تأثر بإكراهات التاريخ وظرفي الزمان والمكان في تطبيق إسلام النظرية، فنتج عن ذلك أحكام فقهية بشرية صارت مكونا للشريعة، ولكنها في أصلها تفاعل بين النص والواقع، بين النص والمخاطب به، فصبغ البعد الثقافي للمخاطب شكل الأحكام والتشريعات الدينية، مما يحتم علينا مراعاة هذا البعد في الحديث عن موقف الإسلام من قضايا مثل الحرية والتعددية، فمراعاة البعد الثقافي تساعد على فهم خلفية الحكم من جانب، وعلى معرفة مدى ملاءمته للحاضر من جانب آخر.

بناء على ذلك يجب في التعاطي مع النصوص والأحكام المرتبطة بالحرية وبالموقف من الآخر استحضار البعد الثقافي، ثم البعد الإنساني وما ينبثق عنه من الإقرار بمساواة الآخر في الكرامة الإنسانية، وكل ما يترتب على مبدأ الكرامة من المساواة في الحقوق والواجبات، فقط حينئذ يمكننا أن نضيف جديدًا في فهم النص وعلاقته بالواقع، وساعتها يمكن قراءة التراث وتجاوز الهدم إلى البناء، والتقليد إلى الإبداع.

ولو استحضرنا مقولة الإمام علي ابن أبي طالب بأن «وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق إنما يتكلم به الرجال»(100) سنجد فيها ربطًا مُباشرًا بالبعد الثقافي والحضاري لقراءة النص قرآنا وسنة، فنص القرآن الصامت يستنطقه الإنسان المتأثر بظرفي الزمان والمكان، ومن ثم لن يستنطق الإنسان من النص جديدًا، طالما أنه لا يعايش التطور الحضاري والثقافي، وطالما أنه لا يُساير التاريخ، ولا يتطور مع حركته استيعابًا وإنتاجًا ومساهمةً في اكتساب المعرفة، وهذا الذي يمكن تسميته بالخروج من التاريخ، من شأنه أن يوقف فهم النص على آخر مرحلة كان العقل مسايرا لحركة التاريخ، أي لحظة توقفه عن التجديد في الفهم والإبداع في التوفيق بين جديد الفهم ومتغيرات الواقع.

قائمة المراجع

ابن تيمية، أحمد. درء تعارض العقل والنقل. الرياض: دار الكنوز الأدبية، 1391 هـ.

ابن عاشور، محمد الطاهر. مقاصد الشريعة الإسلاميّة. تقديم حاتم بوسمة. القاهرة: دار الكتاب المصري/ بيروت: دار الكتاب اللبناني/ الإسكندرية: مكتبة الإسكندرية، 2011.

آدمس، تشارلز. الإسلام والتجديد في مصر. ترجمة عباس محمود. تقديم مصطفى عبد الرازق. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2015.

إروِن، روبرت. ابن خلدون: سيرة فكرية. ترجمة عبد الله مُجير العمري. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2022.

الجابري، محمد عابد. العقل السياسي العربيّ: محدداته وتجلياته. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2000.

السيد، رضوان. الجماعة والمجتمع والدولة: سلطة الأيديولوجيا في المجال السياسي العربيّ الإسلاميّ. بيروت: دار الكتاب العربيّ، 2007.

الشكعة، مصطفى. إسلام بلا مذاهب. القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، 1996.

الشنوفي، منصف. المقدمة لتحقيق كتاب أقوم المسالك. تونس: الدار التونسية للنشر، 1972.

الشهرستاني، أبو الفتح. الملل والنحل. بيروت: دار السرور، 1948.

الطبري، محمد بن جرير. تاريخ الأمم والملوك. بيروت: دار الكتب العلمية، 1407 هـ.

الطهطاوي، رفاعة رافع. الأعمال الكاملة. دراسة وتحقيق محمد عمارة. بيروت: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، 1973.

العروي، عبد الله. مفهوم الحرية. ط 5. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربيّ، 2012.

الغنوشي، راشد. الحريات العامة في الدولة الإسلاميّة. جزءان. القاهرة: دار الشروق، 2012.

الفاسي، علال. مقاصد الشريعة ومكارمها. الدار البيضاء: مكتبة الوحدة العربيّة، 1963.

الفاسي، علال. الحرية. الرباط: مطبعة الرسالة، 1977.

الفاسي، علال. مقاصد الشريعة الإسلاميّة ومكارمها. تحقيق إسماعيل الحسني. القاهرة: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، 2011.

القرش، محمد فتحي. العدالة والحرية بين المفهوم الإسلاميّ والمفهوم الغربيّ المعاصر. القاهرة: مكتبة مدبولي، 2012.

القرضاوي، يوسف. فقه الجهاد: دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته في ضوء القرآن والسنة. القاهرة: مكتبة وهبة، 2009.

الماوردي، أبو الحسن. أدب الدنيا والدين. بيروت: دار الكتب العلمية، 1987

بسيوني، محمود شريف. الوثائق الدولية المعنية بحقوق الإنسان. القاهرة: دار الشروق، 2006.

بني عامر، معاذ. «الإنسان بين شِرعة الاستخلاف وشرعية الاختلاف: مقدمتان ونتيجتان»، في: الحاج دواق (تقديم وتحرير). التعددية الدينية ومنطق التعايش أو في الحقيقة المطلقة. الرباط: مؤمنون بلا حدود، 23 يونيو 2015، ص 39-45، شوهد في 10/1/2023، على: https://bit.ly/3iFpyos

بوبيدي، حسين. «مركزية عهد أردشير في الفكر السياسي الإسلاميّ». في: مجلة المعارف للبحوث والدراسات التاريخية. المجلد 6، العدد 2 (أكتوبر 2021ص 222-261.

بوجليدة، عمر، «مسألة الحرية بين الإصلاح الديني والإصلاح السياسي: خير الدين والطهطاوي أنموذجا». مؤمنون بلا حدود (10/1/2019)، شوهد في 10/01/2023، على: https://bit.ly/3iIu5qh

حسين، محمد الخضر. الحرية في الإسلام. القاهرة: دار الاعتصام، [ب. ت.].

حفني، عاصم. «تعارف الحضارات والمنظومات القيمية». في: زكي الميلاد وصلاح الدين الجوهري (تحرير). تعارف الحضارات: رؤية جديدة لمستقبل العلاقات بين الحضارات. القاهرة: دار الكتاب المصري/ بيروت: دار الكتاب اللبناني/ الإسكندرية: مكتبة الإسكندرية، 2014، ص 191-328

حلاق، وائل. هل سُد باب الاجتهاد؟. ترجمة سعد خضر. القاهرة/ بيروت: نماء للبحوث والدراسات، 2022.

دي سيليز، ماريا. بين الحرية والإنسانية والقدر الإلهي في الفكر الإسلاميّ: دراسة توافقية نظرية عند ابن سينا والغزالي وابن عربيّ. ترجمة محمود سلامة. القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2019.

شلتوت، محمود. الفتاوى: دراسة لمشكلات المسلم المعاصر في حياته اليومية العامة. القاهرة: دار الشروق، 2004.

شلتوت، محمود. الإسلام عقيدة وشريعة. القاهرة: دار الشروق، 2007.

شلتوت، محمود. تفسير القرآن الكريم: الأجزاء العشرة الأولى. القاهرة: دار الشروق، 2004.

صالح، هاشم. مدخل إلى التنوير الأوربي. بيروت: دار الطليعة للطبع والنشر، 2005.

عبد البر، فاروق. موقف عبد الرزاق السنهوري من قضايا الحرية والديمقراطية. القاهرة: [ب. ن.]، 2004.

عبد الرازق، على. الإسلام وأصول الحكم: بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام. تقديم عمار على حسن. الإسكندرية: مكتبة الإسكندرية، 2012.

عبد الرحمن، طه. «مشروع تجديد علمي لمبحث مقاصد الشريعة». مجلة المسلم المعاصر. العدد 301 (1 مارس 2002).

عبده، محمد. الأعمال الكاملة للإمام الشيخ. تحقيق محمد عمارة. القاهرة: دار الشروق، 2006.

عبيدي، سعيد. «في نقد التعددية الدينية عند محمد عمارة». في: الحاج دواق (تقديم وتحرير). التعددية الدينية ومنطق التعايش أو في الحقيقة المطلقة. الرباط: مؤمنون بلا حدود، 23 يونيو 2015، ص 61-64، شوهد في 10/1/2023، على: https://bit.ly/3iFpyos

عمارة، محمد. التعددية: الرؤية الإسلاميّة والتحديات الغربيّة. سلسلة: في التنوير الإسلاميّ، رقم 8. القاهرة: نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، 1997.

عمارة، محمد. الإسلام والتعددية: الاختلاف والتنوع في إطار الوحدة. سلسلة: هذا هو الإسلام، رقم 10. القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2008.

عمارة، محمد. تيارات الفكر الإسلاميّ. القاهرة: دار الشروق، 2011.

قطب، سيد. في ظلال القرآن. القاهرة: دار الشروق، 2005.

كيشانه، محمود. «التعددية الدينية في الإسلام: قراءة في صحيفة المدينة». في: الحاج دواق (تقديم وتحرير). التعددية الدينية ومنطق التعايش أو في الحقيقة المطلقة. الرباط: مؤمنون بلا حدود، 23 يونيو 2015، ص 11-25، شوهد في 10/1/2023، على: https://bit.ly/3iFpyos

مجموعة مؤلفين. نظرية الثقافة، ترجمة علي سيد الصاوي. سلسلة: عالم المعرفة، رقم 223. الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1997. ص 9.

Akashe-Böhme, Farideh. Sexualität und Körperpraxis im Islam. Frankfurt a.M.: Brandes & Apsel, 2006.

Gellner, Ernest. Muslim Society. New York: Cambridge University Press, 1981.

Kizilhan, Ilhan. Ehrenmorde, der unmögliche Versuch einer Klärung – Hintergründe -Analysen – Fallbeispiele. Berlin: Irena Regener, 2006.

Thesiger, Wilfred. Arabian Sands. London: Longmans, 1959.


1 نستخدم مصطلح الثقافة هنا بالمعنى البسيط الذي صاغه مؤسس علم الأنثروبولوجيا الثقافية إدوارد تايلور (1832-1917) في كتابه الثقافة البدائية، بأنها: «مركب يشتمل على المعرفة والمعتقدات، والفنون والأخلاق، والقانون والعرف، وغير ذلك من الإمكانيات أو العادات التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في مجتمع»، يُنظر: مجموعة مؤلفين، نظرية الثقافة، علي سيد الصاوي (مترجم)، سلسلة عالم المعرفة، رقم 223، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1997)، ص 9.

2 محمد الخضر حسين، الحرية في الإسلام (القاهرة: دار الاعتصام، [ب. ت.])، ص 15؛ ورد في مطلع الكتاب أن موضوعه محاضرة ألقاها محمد الخضر حسين (1876-1958التونسي الأصل والذي تولى مشيخة الأزهر من 1952 حتى 1954، بنادي جمعية قدماء تلامذة الصادقية يوم السبت 17 من ربيع الثاني سنة 1324 هجرية عندما كان قاضيا بمدينة بنزرت التونسية.

3 عبد الله العروي، مفهوم الحرية، ط 5 (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربيّ، 2012)، ص 16؛ أما معنى الحرية كضد للعبودية فسماه العروي المعنى القانوني، يُنظر: المرجع نفسه.

4 علال الفاسي، مقاصد الشريعة ومكارمها (الدار البيضاء: مكتبة الوحدة، 1963)، ص 244.

5 يُنظر: محمد الطاهر ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلاميّة، حاتم بوسمة (تقديم) (القاهرة: دار الكتاب المصري/ بيروت: دار الكتاب اللبناني/ الإسكندرية: مكتبة الإسكندرية، 2011)، ص 229.

6 ابن عاشور، ص 228.

7 اعتبر خير الدين التونسي في حديثه عن الحرية في الدولة الدستورية أن مبدأ «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ولأن المجالس النيابية نائبة عن الأفراد فيصير هذا المبدأ في حقها فرض عين، وبالتالي يسقط عن عامة الجماهير، يُنظر: منصف الشنوفي، المقدمة لتحقيق كتاب أقوم المسالك (تونس: الدار التونسية للنشر، 1972ص12، 59؛ عمر بوجليدة، «مسألة الحرية بين الإصلاح الديني والإصلاح السياسي: خير الدين والطهطاوي أنموذجا»، مؤمنون بلا حدود (10/1/2019)، ص 12-13، شوهد في 10/01/2023، على: https://bit.ly/3iIu5qh

8 ابن عاشور، ص 233-234؛ والاقتباسات السابقة من المرجع نفسه.

9 يجيب على ذلك الغنوشي قائلا إن لغير المسلم التعبير عن رأيه ليس فقط في حدود القانون الذي يخضع له الجميع، ولكن أيضا في «الحدود التي لا تجرح مشاعر الأغلبية»، ويسري ذلك على ممارسته شعائره الدينية «في حدود رعاية الرأي العام، والذوق العام للأغلبية»، يُنظر: راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلاميّة (القاهرة: دار الشروق، 2012)، ص 70-71؛ أي أن حرية التعبير لغير المسلم متوقفة على ذوق المسلمين العام، هذا الذوق الذي لا يحدده قانون، ويتغير من مكان لمكان وعرف لعرف، مما يجعل الحكم على حرية التعبير في يد الأفراد وليس القوانين الحاكمة، مما يسبب الفوضى والاضطرابات.

10 العروي، ص 13-14.

11 عادة يستخدم علم الكلام مصطلح الاختيار بمعنى الحرية.

12 العروي، ص 21-22.

13 المرجع نفسه، ص 22.

14 المرجع نفسه، ص 18.

15 المرجع نفسه.

16 حسين، ص 16.

17 المرجع نفسه.

18 للمزيد حول الإطار النظري للعدل والحرية يُنظر: محمد فتحي القرش، العدالة والحرية بين المفهوم الإسلاميّ والمفهوم الغربيّ المعاصر (القاهرة: مكتبة مدبولي، 2012).

19 رفاعة رافع الطهطاوي، الأعمال الكاملة، محمد عمارة (دراسة وتحقيق) (بيروت: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، 1973)، ص 148.

20 يُنظر: بوجليدة، ص 17.

21 على عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم: بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام، تقديم عمار على حسن (الإسكندرية: مكتبة الإسكندرية، 2012)، ص 136.

22 محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربيّ: محدداته وتجلياته (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2000)، ص 39-42.

23 يُنظر: محمود كيشانه، «التعدديّة الدينية في الإسلام: قراءة في صحيفة المدينة»، في: الحاج دواق (تقديم وتحرير)، ملف بحثي: التعددية الدينية ومنطق التعايش أو في الحقيقة المطلقة (الرباط: مؤمنون بلا حدود، 23/06/2015)، ص 11-25، ص 13-15، شوهد في 10/1/2023، على: https://bit.ly/3iFpyos

24 كيشانه، ص 13.

25 نستخدم مصطلح «مسلم» هنا بمعنى معتنق للإسلام دون أي توجه سياسي أو أيديولوجي، أما مصطلح «إسلاميّ» فنستخدمه بمعنى معتنق الإسلام الذي يسعي لربطه بالسياسية، وتكييف نصوصه لتشمل جميع جوانب الحياة بحيث تصبح مرجعية تشريعية، قانونية ودستورية، وكذلك أخلاقية عرفية للناس كافة.

26 محمد عمارة، التعدديّة: الرؤية الإسلاميّة والتحديات الغربيّة، سلسلة: في التنوير الإسلاميّ، رقم 8 (القاهرة: نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، 1997)، ص 4، 6.

27 المرجع نفسه، ص 5.

28 هذه الوحدة يسميها الغنوشي «الأخوة العقائدية» التي تقوم على «الأرضية المشتركة من العقائد والمصالح المشتركة» في جو من «الديمقراطية الأخوية»، يُنظر: الغنوشي، ج 2، ص 150.

29 عمارة، التعدديّة، ص 18؛ ويُنظر بالتفصيل قضية تمييز عمارة للأمة الإسلاميّة وقصر التعدديّة داخل المرجعية الواحدة وهي الإسلاميّة: محمد عمارة، الإسلام والتعدديّة: الاختلاف والتنوع في إطار الوحدة، سلسلة: هذا هو الإسلام، رقم 10 (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2008).

30 عمارة، التعدديّة، ص 9.

31 للاطلاع على بنود صحيفة المدينة كاملة يُنظر: محمود شريف بسيوني، الوثائق الدولية المعنية بحقوق الإنسان، (القاهرة: دار الشروق، 2006)، المجلد الثاني، ص 27-29.

32 عمارة، التعدديّة، ص 11-12.

33 المرجع نفسه، ص 19-20.

34 يُنظر: كيشانه، ص 13-15.

35 لمطالعة نقد لرؤية محمد عمارة حول التعدديّة يُنظر: سعيد عبيدي، «في نقد التعدديّة الدينية عند محمد عمارة»، في: الحاج دواق (تقديم وتحرير)، ملف بحثي: التعددية الدينية ومنطق التعايش أو في الحقيقة المطلقة، ص 61-64، شوهد في 10/1/2023، على: https://bit.ly/3iFpyos

36 فاروق عبد البر، موقف عبد الرزاق السنهوري من قضايا الحرية والديمقراطية (القاهرة: [ب. ن.]، 2004)، ص 12.

37 من المرجح أن يكون الخضر حسين قد أخذ مصطلحي المشورة والمساواة كقاعدة للحرية من كتاب تلخيص الإبريز في وصف باريز لرفاعة رافع الطهطاوي وكتاب أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك لخير الدين التونسي. حول هذين المفهومين عن الكاتبين المذكورين يُنظر: بوجليدة، ص 12-13.

38 حسين، ص 18-80.

39 ابن عاشور، ص 163-164.

40 المرجع نفسه، ص 165.

41 أما راشد الغنوشي فيرى أن مانع المساواة مع أهل الذمة راجع إلى «مقتضيات النظام العام أو هوية المجتمع ونوع القيم العليا التي تحكمه»، يُنظر: الغنوشي، ج 1، ص 79؛ وبطبيعة الحال هوية المجتمع إسلاميّة، وقيمه العليا التي تحكمه أيضا إسلاميّة؛ ومن ثم وجب تطبيق تلك الإحكام التي ستقيد المساواة مع غير المسلم بالضرورة.

42 ابن عاشور، ص 167.

43 المرجع نفسه، ص 168؛ والاقتباسات السابقة من المرجع نفسه.

44 من الجدير بالذكر في شأن تولي المرأة القضاء أن الفقيه الدستوري الشهير عبد الرزاق السنهوري (1895-1971) أثناء رئاسته لمجلس الدولة (1949-1954) المعني بالقضاء الإداري قضى بأن المانع من توليها القضاء حتى عصره ليس دينيا، بل اجتماعيا ثقافيا؛ حيث أن الظروف الاجتماعية «غير مهيئة لتقبل تعيين المرأة قاضية»، يُنظر: عبد البر، ص 15-16.

45 حول المقاصد الشرعية في الإسلام يُنظر: علال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلاميّة ومكارمها، إسماعيل الحسني (تحقيق) (القاهرة: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، 2011ص 151-169.

46 علال الفاسي، الحرية (الرباط: مطبعة الرسالة، 1977)، ص 65.

47 Wilfred Thesiger, Arabian Sands (London: Longmans, 1959), p. 94.

48 العروي، ص 25؛ إلا أن العروي يرى أن العشيرة ترمز إلى الحرية بعكس الدولة التي ترمز إلى العبودية، لأن الدولة تفرض سلطانها على أهل الحضر فتقيد من حرياتهم، في حين أن سلطان الدولة لا يصل للعشيرة البدوية التي تتمتع لذلك بالحرية، يُنظر: المرجع نفسه، ص 26؛ ولكن العروي لا يذكر أن أفراد العشيرة من الداخل لا يتمتعون بحرية فردية وعليهم جميعا السمع والطاعة لأعراف القبيلة ورئيسها وإلا كان جزاؤهم التغريب والحرمان من حماية القبيلة.

49 العروي، ص 26.

50 الجابري، ص 96.

51 هذه الحماية والانتفاع المتبادل بين أفراد القبيلة بدون اعتبار للظالم من المظلوم هو الذي سماه ابن خلون بالعصبية. لمزيد حول مصطلح العصبية القبلية عند ابن خلدون وعلاقته بالدين لاحقا يُنظر: روبرت إروِن، ابن خلدون: سيرة فكرية، عبد الله مُجير العمري (مترجم) (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2022)، ص 58-61.

52 اعتبر ابن خلدون الدين رابطا إضافيا مقويا للعصبية، يُنظر: إرون، ص 58-59.

53 الجابري، ص 96.

54 إروِن، ص 60، نقلا عن:

Ernest Gellner, Muslim Society (Cambridge: Cambridge University Press, 1981), p. 38.

55 الجابري، ص 52.

56 للمزيد حول وجوب طاعة الإمام البار والفاجر كما جاء في عقيدة الإمام أحمد بن حنبل (ت. 855) يُنظر: رضوان السيد، الجماعة والمجتمع والدولة: سلطة الايديولوجيا في المجال السياسي العربيّ الإسلاميّ، ط 2 (بيروت: دار الكتاب العربيّ، 2007)، ص 254-268.

57 مال الغنوشي إلى اعتبار عقوبة المرتد تعزيرية، أي ليست حدا دينيا ثابتا، فهي متروكة للحاكم -المشرع- يقدرها كيفما يشاء، ولكن الغنوشي أقر مبدأ العقوبة على أية حال، ولم يقل بإسقاطه، ومن ثم تنتفي حرية العقيدة بالتبعية، يُنظر: الغنوشي، ج 1، ص 75.

58 الخضر حسين، ص 65.

59 كان الطاهر ابن عاشور قد أضاف سابقا الحرية إلى جانب الفطرة والمساواة للكليات الخمس، يُنظر: محمد الطاهر ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلاميّة، تقديم حاتم بوسمة. (القاهرة: دار الكتاب المصري/ بيروت: دار الكتاب اللبناني/ الإسكندرية: مكتبة الإسكندرية، 2011)، خاصة ص 163-170، ص 227-237.

60 طه عبد الرحمن، «مشروع تجديد علمي لمبحث مقاصد الشريعة»، مجلة المسلم المعاصر، العدد 301 (1/3/2002شوهد في 10/1/2023، على: https://bit.ly/3Hc43oV

61 يُنظر: الغنوشي، ج 2، ص 191؛ عبارة «حراسة الدين» مأخوذة من مقولة شهيرة للماوردي ونقلها عنه ابن خلدون في تعريفه الخلافة بأنها «حراسة الدين وسياسة الدنيا»، يرجع أصل تلك العبارة إلى نص فارسي للملك أردشير بن بابك (ت. 242 م)، مؤسس الدولة الفارسية الساسانية، بعنوان عهد أردشير، يُنظر: حسين بوبيدي، «مركزية عهد أردشير في الفكر السياسي الإسلاميّ»، مجلة المعارف للبحوث والدراسات التاريخية، المجلد 6، العدد 2 (أكتوبر 2021)، ص 222-261، ص 231-237.

62 حول عدم تجاوز الثقافة العربية ومثقفيها لمرحلة القرون الوسطى يُنظر: هاشم صالح، مدخل إلى التنوير الأوربي (بيروت: دار الطليعة للطبع والنشر، 2005)، ص 11-18.

63 Farideh Akashe-Böhme, Sexualität und Körperpraxis im Islam (Frankfurt a.M.: Brandes & Apsel, 2006), S. 45-46.

64 للمزيد حول مفهوم الشرف بين الجنسين وربطه بالجنس وجرائم الشرف يُنظر:

Ilhan Kizilhan, Ehrenmorde, der unmögliche Versuch einer Klärung – Hintergründe -Analysen – Fallbeispiele (Berlin: Irena Regener, 2006), p. 67-86.

65 للمزيد حول الفرق بين مفهوم الحرية الشخصية خاصة في إطار ممارسة الجنس في الثقافتين العربيّة والغربيّة يُنظر: عاصم حفني، «تعارف الحضارات والمنظومات القيمية»، في: زكي الميلاد/صلاح الدين الجوهري (محررتعارف الحضارات: رؤية جديدة لمستقبل العلاقات بين الحضارات (القاهرة: دار الكتاب المصري، بيروت: دار الكتاب اللبناني، الإسكندرية: مكتبة الإسكندرية، 2014). ص 191-328، خاصة ص 310-315.

66 يُنظر: حسين، ص 56-57.

67 المرجع نفسه، ص 58.

68 المرجع نفسه، ص 61.

69 تستخدم العامية المصرية كلمة «دكر» بالدال التي توقظ مباشرة جميع دلالات الفوقية الذكورية.

70 لعل هذا يوضح خلفية وسيلة الإكراه على الاعتراف أو التعذيب غير القانونية التي يشاع أن رجال الأمن يمارسونها في السجون المصرية وهي الاغتصاب الجنسي للمحتجزين وأحيانا للمسجونين الذكور ليلحق العار بالمفعول به داخل السجن وخارجه، بينما لا يصيب العار الفاعل وإن كان فعله غير محمود أخلاقيا، وقد أشار الأديب الطبيب المصري علاء الأسواني إلى هذه الوقائع في روايته الشهيرة عمارة يعقوبيان التي صدرت في القاهرة عام 2002 عن دار الشروق وغيرها، ثم تحولت عام 2006 إلى فيلم سينمائي شهير عرض واقعة اغتصاب أحد المحتجزين جنسيا.

71 للمزيد حول جديلة الحرية والقدر عند المتكلمة والفلاسفة والمتصوفة يمكن الاطلاع على الدراسة الموسعة التالية: ماريا دي سيليز، بين الحرية والإنسانية والقدر الإلهي في الفكر الإسلاميّ: دراسة توافقية نظرية عند ابن سينا والغزالي وابن عربيّ، محمود سلامة (مترجم) (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2019).

72 أحمد أمين، من زعماء الإصلاح (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1996)، ج 1، ص 124.

73 تشارلز آدمس، الإسلام والتجديد في مصر، عباس محمود (مترجم)، مصطفى عبد الرازق (تقديم) (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2015)، ص 111.

74 كلمة الحس هنا تلتقي بوضوح مع المفهوم الغربيّ بأنه فقط ما يقع تحت حواس الإدراك هو مجال البحث العلمي.

75 محمود شلتوت، الفتاوى: دراسة لمشكلات المسلم المعاصر في حياته اليومية العامة (القاهرة: دار الشروق، 2004)، ص 350.

76 محمود شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة (القاهرة: دار الشروق، 2007)، ص 61-62؛ للمزيد حول رأي شلتوت في مفهوم القدر في القرآن وربطه بدلالته اللغوية بمعنى المقادير التي خلق الله عليها الكون وأن صفة العلم في حقه تعالى هي صفة كشف وليست صفة تأثير، راجع كتابه: الفتاوى، ص 41؛ وكذلك بتفصيل أكثر في كتابه: تفسير القرآن الكريم: الأجزاء العشرة الأولى (القاهرة: دار الشروق، 2004)، ص 183-186.

77 الفاسي، ص 230.

78 المرجع نفسه، ص 230.

79 يُنظر: محمد عبده، الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده، محمد عمارة (تحقيق وتقديم) (القاهرة: دار الشروق، 2006)، ج 5، ص 290.

80 يُنظر: سيد قطب، في ظلال القرآن (القاهرة: دار الشروق، 2005ج 2، ص 759.

81 الفاسي، ص 232.

82 عبد الرازق، ص 125.

83 السيد، ص 221.

84 العروي، ص 59.

85 حول تفنيد مقولة غلق باب الاجتهاد يُنظر: وائل حلاق، هل سُد باب الاجتهاد؟، سعد خضر (مترجم) (القاهرة/ بيروت: نماء للبحوث والدراسات، 2022).

86 يُنظر: أحمد ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل (الرياض: دار الكنوز الأدبية، 1391 هـج 9، ص 20.

87 يُنظر: مسند أحمد (18828)، وللمزيد حول ميدان الجهاد داخل المجتمع يُنظر: يوسف القرضاوي، فقه الجهاد: دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته في ضوء القرآن والسنة (القاهرة: مكتبة وهبة، 2009)، ج 1، ص 171.

88 يُنظر: تفسير محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن (مكة: مؤسسة الرسالة، 2000).

89 يُنظر: مصطفى الشكعة، إسلام بلا مذاهب (القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، 1996)، ص 431، 334، 456.

90 أبو الفتح الشهرستاني، الملل والنحل (بيروت: دار السرور، 1948ص 55-59؛ ويتفق هذا مع الرأي القائل بأن العقل سبق الشرع مجيئا بحيث يستدل بكمال الأول على الثاني، يُنظر: أبو الحسن الماوردي، أدب الدنيا والدين (بيروت: دار الكتب العلمية، 1987ص 111.

91 العروي، ص 89، نقلا عن:

Jean-Paul Sartre, L’Être et le Néant: Essai d’ontologie phénoménologique (Paris: Gallimard, 1943), p. 639;

وقد قام عبد الرحمن بدوي بترجمة الكتاب بعنوان: الوجود والعدم: بحث في الأنطولوجيا الظاهراتية، وصدر عن منشورات دار الأدب ببيروت عام 1966، ثم أصدرت المنظمة العربيّة للترجمة ببيروت ترجمة أخرى للكتاب عام 2009 على يد نقولا متيني بعنوان الكينونة والعدم: بحث في الأنطولوجيا الفنومينولوجية.

92 الغنوشي، ج 2، ص 185.

93 العروي، ص 92.

94 الطهطاوي، ص 519.

95 الغنوشي، جـ 1، ص 53.

96 المرجع نفسه، ص 53، 57.

97 المرجع نفسه، ص 54.

98 العروي، ص 50-51.

99 لمزيد حول إشكالية الاستخلاف يُنظر: معاذ بني عامر «الإنسان بين شِرعة الاستخلاف وشرعية الاختلاف: مقدمتان ونتيجتان»، في: الحاج دواق (تقديم وتحرير)، ملف بحثي: التعددية الدينية ومنطق التعايش أو في الحقيقة المطلقة، ص 39-45، شوهد في 10/1/2023، على: https://bit.ly/3iFpyos

100 محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك (بيروت: دار الكتب العلمية، 1407 هـج 3، ص 110.