مراجعات بحثية في التراث العقدي لياسر المطرفي وآخرين

مراجعة:عبد الإلاه بوديب*

ياسر المطرفي (محرر). مراجعات بحثية في التراث العقدي: دراسات عربية ومترجمة. القاهرة/ بيروت: نماء للبحوث والدراسات، 2022. 392 صفحة. ISBN 9776870291

لعل أحد أكثر المجالات البحثية تعقيدًا داخل التراث الإسلامي، على الرغم من التراكم البحثي المهم الذي عرفه خلال العقود الأخيرة، هو مجال العقائد والكلام، ما يجعل بحاجة ملحة إلى مراجعات مستمرة، تضمن صورة أوضح عن مسارات تشكل المدارس الكلاميّة في الإسلام، بعيدًا عن القراءات المتعسفة. ولعل الكتاب الذي بين أيدينا، الذي يضم عددا من الدراسات الأكاديمية، يمثل نموذجًا لهذا التعقيد الذي يخيم على هذا المجال، خصوصا إذا علمنا أن جميع هذه الدراسات باستثناء دراسة يتيمة، تدور حول إشكال نسبة بعض المؤلفات لمؤسسي أضخم تيارين عقدين في الموروث السني، يتعلق الأمر بكل من أبي الحسن الأشعري (ت. 324هـ / 874م)، وأحمد بن حنبل (241هـ / 855م).

يضم الكتاب بين دفتيه مقدمة تأطيرية للعمل وثلاثة أقسام، في القسم الأول دراستان تعالجان إشكال نسبة كتاب الرد على الزنادقة والجهمية لأحمد بن حنبل، الأولى ترجمة عربية لدراسة أندرو ج. ماكلارن، حيث ركز ماكلارن على دراسة مخطوطات رسالة الرد المنسوبة لابن حنبل، لينتهي إلى أن نص هذه الرسالة كما هو متداول، عبارة عن دمج لإبرازتين (طبعتين) مختلفتين، ظهرت لأول مرة خلال القرن 8هـ/ 14م بمدينة دمشق. في حين اهتم الباحث عبد الله الغزي بدراسة نقدية لمضمون الرسالة، ومدى انسجامها مع المعطيات التي نتوفر عليها حول شخصية ابن حنبل ومواقفه الدينيّة من جهة، ومن جهة أخرى حول السياق التاريخي الذي يقدر أن الرسالة ألفت فيه. لينتهي إلى أن نسبة الرسالة بصيغتها الحالية للإمام أحمد، تعترضه العديد من الإشكالات العلمية، ولا تتناسب مع ما نعرفه عن ابن حنبل ومنهجه خصوصا في التعامل مع القضايا العقدية، ولا مع الظرف التاريخي الذي أُلِّفت فيه، دون أن يجزم بشكل قاطع بنفي هذه الرسالة للإمام أحمد.

أما القسم الثاني، فضمَّ دراستين مترجمتين تُعالجعان إشكال نسبة رسالة استحسان الخوض في علم الكلام أو الحث على البحث لأبي الحسن الأشعري. الأولى لجورج مقدسي، الذي عمل على التشكيك في نسبتها للأشعري حتى يتسنى له الاحتفاظ بالصورة الأثرية التي رسمها عن الأشعري بكل حماس، وعلى الرغم من أنَّ أطروحة المقدسي معروفة بشكل جيد في السياق الأكاديمي الغربي والعربي، إلا أنها لم تتلق لحد الساعة نقدًا علميا للأدلة التي اعتمدها مقدسي للتشكيك في نسبة الرسالة للأشعري. ولعل إدراك محرر ومنسق الكتاب ياسر المطرفي لحجم الإشكالات التي تحتوي عليها دراسة مقدسي هو ما جعل اختياره يقع على دراسة ريتشارد فرانك كدراسة ثانية تمثل بحثا تعقيبيا على أطروحة مقدسي، حيث قدَّم فرانك إجابة عن إشكال الانسجام في فكر الأشعري بين وجهه الأثري، الذي ظهر به في الإبانة والمقالات؛ ووجهه الكلامي الذي ظهر به في باقي مصنفاته وعلى رأسها رسالة الاستحسان في الخوض في علم الكلام، مع نشر طبعة نقدية للرسالة من إعداد فرانك، التي تعتبر الدراسة حسب المؤلف مقدمة لها. وعلى الرغم من الجهد الذي بذله فرانك في سبيل الإجابة عن إشكال الانسجام في فكر الأشعري، إلا أن اعتماده على كتاب رسالة إلى أهل ثغر كنص للأشعري يعد نقطة ضعف واضحة في مقالة فرانك!

وأما القسم الثالث والأخير، فضم دراسة مترجمة لرشا العمري عالجت فيها إشكال نسبة كتاب الحيدة والاعتذار لعبد العزيز الكناني (ت. 221هـ/ 836م)، وأثبتْ أن هذه الرسالة، التي تحتوي على مناظرة جرت في بلاط الخليفة العباسي المأمون بين الكناني وبشر المريسي (ت. 218هـ/ 833م) حول قضية خلق القرآن، منحولة ولا يمكن أن تكوم بحال من تصنيف الكناني، ورجَّحتْ أن يكون واضعها هو محمد بن الحسن الأصم (ت. 320هـ/ 932م).

على الرغم من الملاحظات التي يمكن أن نقدمها بخصوص مضامين بعض هذه الدراسات التي ضمها الكتاب، إلا أن الأسئلة التي يطرحها مثل هذا الإصدار، اختيارًا لمضوعاته وطريقة إخراجه، تجعله جديرا بالمراجعة. أكتفي بالإشارة إلى سؤال واحد من بين الأسئلة التي طرحها الكتاب وهو؛ سؤال ضرورة المراجعة النقدية العربية للأعمال الغربية في مجال الكلام والعقائد.

على الرغم من أنه لا يمكن إنكار المجهودات التي قام بها الباحثون الغربيون في حقل الدراسات الكلامية تحقيقًا ودراسةً، إلا أن هذه المجهودات الغربية تعرف الكثير من الثغرات التي تحتاج إلى أقلام عربية رصينة، لتكملة هذه النواقص.

لذا فإن إقامة حوارٍ أكاديميّ عربي-غربي سيفيد بشكل كبير حقل الدراسات الكلامية، ويرفع من جودة الدراسات في هذا المجال خصوصًا العربية منها. ولعلّ القسم الأول من الكتاب يمثل نموذجًا مشرقا لهذا الحوار، فقد قدَّم الباحث عبد الله الغزي إضافة نوعية للكتاب وساهم في ظهوره بهذا الشكل.

* باحث في علم الكلام في العصر الوسيط والحديث.