لُباب الكلام لعلاء الدين الأسمندي

مراجعة: محمد الراضي*

al-Usmandī ʿAlāʾ ad-Dīn Muhammad. Lubāb al-Kalām. Mehmet Sait ÖzervarIi (ed.). Istanbul: İslām Araştırmaları Merkezi, 2019, 2th ed. 24 × 17 cm., 36 (Ar. Intro.) + 81 (Tr. Intro.) + 231 pages. ISBN 978-605-7580-32-0.

علاء الدين الأسمندي. لباب الكلام. تحقيق وتعليق محمد سعيد أوزَرْوارْلِي. إستانبول: مركز البحوث الإسلامية، 2019، ط. 2. 24 × 17 سم.، 36 (مقدمة بالعربية) + 81 (مقدمة بالتركية) + 231 صفحة.

إنّا بإزاءِ تصور، يسود بين أوساطٍ أكاديميّة، يجادل عنْ قيمة نشر التراث المعرفيّ والدّيني المكتوب في الأزمنة الكلاسيكية والوسيطة قبل الحقبة الحديثَة؛ من حيث إنَّه ليسَ عملًا متجاوزًا يلزمنَا الحيد عنه إلى الانشغال بمآل إشكالات الفِكر الإسلامي الحديث والمعاصر ما دمنا نعتبر التراث الأدبي القديم رهينَ زمانِه وحدوده بكيفية ما. نحنُ، إذن، أمامَ إحياء يبتغي فهم القديم كما هو وفق مناهج عديدة ذات جدوى، من قبيل الفيلولوجيا والتحليل التاريخي وغيرها من المناهج. ومن ثمة فأول خطى كتابة تاريخ الأفكار، بعيدًا عن أيّ توصيف إيديولوجيّ أو احتفاءٍ غير موضوعي، هو الاستنادُ إلى وثائق تاريخية ترسم معالمه كما هو. وغير خافٍ أنَّ مخطوطات المعارف والعلوم المحررة في الحقب الكلاسيكية والوسيطة من تاريخ الفكر الإسلاميّ أصدق شاهد على مسارات الأفكار وتقلباتها.

وفق هذا يمكننَا أن نفهم جهةً موضوعية لسبب صدور كتاب لباب الكلام لعلاء الدين الأُسمندي الماتريدي الحنفيّ (ت. 552هـ/ 1157م) بتحقيق ودراسة الباحث محمد سعيد أوزَرْوارْلِي Mehmet Sait ÖzervarIi ضمن مشروع الفترة الكلاسيكية المبكرة Early Classical Period Project؛ فالعمل يمكن أن يؤطّر، موضوعيًّا، ضمن عناية دارسي تاريخ الأفكار الكلامية بالمدرسة الماتريدية، إحدى مدارس علم الكلام السنيّ التي مازال الاعتناء بإرثها لا يرقى إلى تشييدِ مخطّط أكاديميّ مرجعي واصف لمضمونها المعرفيّ ومتتبعٍ لبيوغرافيات أعلامها من المتكلمينَ كما هو حال الدراسات المتراكمة حول موازيتِها المدرسة الأشعريّة وبعض خصومها كالمعتزلة؛ إلا إذا استثنينا المادَّة المرجعية عن الماتريدي ومدرسته، المحررة من قِبل أولرِش رودولف Ulrich Rudolph مستفيدًا من منوغرافيته الممتازة عن أبي منصور الماتريدي (ت. 333هـ/944م)(1).

لعلَّ من أهمّ مفارقات تاريخ الماتريدية كونها الصورةَ الإيمانية الممثّلة للمذهب الفقهيّ الحنفيّ، أكثر المذاهب التشريعية انتشارًا واعتناقًا من قِبل المسلمينَ عمومًا، ومسلمي السّنة تحديدًا(2). فبخلاف الأشعرية، التي توزعت تقاليدها بين مذهبين فقهيين على الأقل؛ صنع الأحناف ضمن تعاليم إمامهم أبي حنيفة النعمان (ت. 150هـ/ 767م) زاوية عقائدية أبقت صلتَهم به متكاملة من كل الزوايا. وقد أظهرت دراسات كل من كريستوفر مِلشيرت Christopher Melchert ووائل حلاق التحول الكبير الذي ابتدأ بعد منتصف القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي نحو ما سمي بـ«التأليف الكبير» Great Synthesis بين تيار العقلانيين من أهل الرأي وتيار المحافظين من أهل الحديث(3)؛ إذ في هذا السياق، مثّلت الأشعريّة نموذجا تركيبيًّا تمثَّل توفيقية أبي عبد الله الشافعي (ت. 204هـ/ 819م) بين توجهين متنازعين في مستوى العقائد فضلا عن التشريع. وبموازاة ذلك أظهرت الماتريدية نزعةً عند الأحناف، الميالين إلى عقلانية تشريعيَّة، نحو إيجاد صيغَة عقليَّة للعقائد الإيمانية المحافظَة لإضفاء طابع ملائم بين العقلانية وعقائد أهل الحديث الذين طالما وصموا أهل الرأي في أفكارهم، جاعلينَ أبا حنيفة وبعض الفقهاء المنتسبين إلى مذهبه من أهل البدعِ. ويبدو أنَّ هذا العمل التلفيقيَّ الحثيث قد ظهرت ذروته في أفكار وأعمال الماتريدي الذي صيَّر عقائد الحنفية متماسكة حينَ ألبسها ثوبًا كلاميًّا عقلانيًّا مُوافقًا في جوهره لعقائد المحافظينَ.

لقد أثبتت الشواهد النصية اللاحقة تلك الصلة الوثيقة التي نسجها الحنفية بين العِلمين النظريين: أصولِ الدين أو علم الكلام، وأصول الفقه؛ وبين اسم «الفقهاء» حتى صارت عبارة «طريقة الفقهاء»، فيما يبدو غالبا، تحيل على تقليد سعى نحو رسم حدودٍ لتعاليمه الإيمانية والعملية داخل النسيج السنيّ نفسه. وعلى هذا يمكننا أن نفهم بعض الأسباب، الحاملة للماتريدية الأحناف على إبداءِ تصوراتٍ كلامية مجافية للأشعرية في قوالب لفظية قاذعة أو مظهرة للخلاف والمجافاة بالنحوِ الذي نقرأه في كتب الخلاف بين فقهاء الحنفية والشافعية(4)؛ وكأنّ الأحناف جعلوا آراء أبي الحسن الأشعريّ (ت. 324هـ/ 936م) داخل إطار شافعيِّ التوجه كلية؛ ومن ثمة راحوا معتبرين المستويين العقدي والفقهي موازيين لأي من التوجهات السنية الأخرى.

لا نعرفُ الشيءَ الكثير عن علاء الدين الأُسمندي مؤلف اللُّباب، ولا تساعدنا بعض المعطيات في شيء ذي بال سوى إن أردنا تكوين ملامح عامة من بيوغرافيا الرجل الذي يبدو أنه نشأ متعلما في الحاضرة العلمية سمرقند، وربما عاش فيها حتى نسب إليها انتسابه إلى بلدتِه أُسمند (ص 25). وإلى ذلك كله؛ لا نعلم من أساتذته عالمًا تخصّص في علم الكلام؛ لكن، وفيما يظهر، فإن الأسمندي أفاد من ميولات الأحناف العقائدية وقدراتهم الجدلية القوية فأخذ عن حلقات أساتذته توجهَهم الجدلي في علمي الكلام والفقه، وهما مستويان أفصح عنهما الرجل في عمليه المنشورين: طريقة الخلاف في الفقه، ولباب الكلام (ص 27، 28).

عقائد الماتريدية في صورة الـ Compendium

لا يساعد مخطط أوزَرْوارْلِي المصغر لمحتوى اللباب في تبيّن دقيق لخصوصية الآراء الكلامية للأسمندي؛ لكنه في المقابل، وكما مضمون اللباب، يوحي بوفاء مطّرد لـ«طريقة متكلمي الحنفية والماتريدية» في التأليف الدقيق والمتداعي، على الأقل، بين المسائل (ص 31، 32). ونحسب، بادئًا، أنَّ اللباب المكتوب بطريقة الاختصار Compendium الرفيع قد انطبع بهمّ التعليم والتلقين المدرسيين (ص 39) اللذين ظهرا جليًّا في جنس تحرير الأفكار، فضلا عما ينبئ عنه العنوان، بطريقة تقتصِد في العبارة ولا تُعقدها، كما اختصارات المتقدمينَ عمومًا.

وعند إجرائنا لمقارنة اللباب بكتاب التوحيد للماتريديّ يمكننا أن نلمسَ الأثر البليغ في تنسيق المسائل بنحوٍ معقول في فصول مختصرة توفي بالغرض المدرسي العارض لإشكالات الكلام الرئيسية. ويبدأ الأسمندي، كباقي الماتريدية، بمباحث ­ذات طابع معرفي إبستيمولوجي (ص 41-57) تكمن قيمتها، أساسا، في إفضائها إلى المباحث الكلامية اللاحقة وفق تسلسل منطقيِّ؛ ذلك أنَّا إذا أردنا، مثلا، استنتاج «ثبوت الصانع» لـ«العالم» لزمنَا، بحسب هذا المُخطّط، الجدالُ أولًا عن كون «العقل» من «أسباب المعارف» (ص 46-49) إلى جانب «الحواس» و«الخبر الصادق» (ص 44-46). وهكذَا ففحص طبيعة صفات الله أهي مغايرة له أم لا؟ مسبوق بعرضٍ لطبيعة ذات الله نفسه الذي نعلم، بناء على استدلالات مركبة ومعقدة، أنه «موجود» و«قديم» و«واحد» و«ليس بجوهر» و«ليس بجسم» ولا في «جهة ولا في مكان» (ص 70-81). إذن؛ فطريقَة التوزيع وحدها توضح مدى الاحتفاء بنسقٍ كلاميّ ماتريدي أثير يرى فائدة كبيرة في التدرج الإبستمولوجي للمسائل بدءًا من نظريات المعرفة ووصولًا إلى العقائد المتلقاة من الوحي -السمعيات-، وحيث إن هذا التنسيق ذو فائدة جدلية كبيرة فإنَّه، إلى هذا، يطوي غرضًا مدرسيًّا يسْعَى إلى تذليل وتقريب مضمون تقاليد الماتريدية في شكل لبِّ الأفكار وضروريّها.

ما القيمة التاريخية؟

إذا كان قسم «الدراسة: علاء الدين الأسمندي وكتابه ’لباب الكلام’» (ص 17-36) من نشرة الكتاب غيرَ معنيّ بتوضيح القيمة التي يمكننَا أن نستوضحها من العمل؛ فإنَّ الفحص الأولي لمتنه قد انطوى على معطيات تاريخية مهمة للغاية؛ إذ بالاستناد إلى التوصيف السلبي والقاتم الذي أبداه المتكلم الأشعري فخر الدين الرازي (ت. 606هـ/ 1209م) إزاء أفكار بعض الماتريدية وإرثهم العلمي في آسيا الوسطى، بعد النصف الثاني من القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي؛ يقف اللباب شاهدًا على طبيعة السكون الذي دخله التقليد الماتريدي بفعل الصياغة الكلامية المستفيضة وشبه المستقرة لـ تبصرة أبي معين النسفي (ت. 508هـ/ 1114م).

وما يثير انتباهنا حقّا، في صدد استيضاح قيمة نصّ اللباب، أمران تسندهما طبيعة المصادر التِي أفاد منها الأسمنديّ وهو يحرر متن لبابه. أولهما، إعادة أفكار التبصرة في الكلام الماتريدي بأمانة كبيرة تحافظ على مسافة بين فكرين كلاميين سنيين (يُنظر مثلا: ص 54-57، 59، 95-97، 108-109)؛ أما ثاني الأمرين، فشيء يبدو خفيًّا في النصّ يتعلق بمصَدر ذي قيمة كبيرة، ذلك أنَّ الأُسمندي لا يصرّح في أيّ من مواضع الكتاب بما يفيد استعادة جديّة لآراء أبي حامد الغزالي (ت. 505هـ/ 1111م)، سيما تلك التي حبّرها الغزالي، بعد كتابيه الشهيرين مقاصد الفلاسفة وتهافت الفلاسفة، في مختصره الاقتصاد في الاعتقاد(5).

ما الذي جعل العلاء الأسمندي يفيد من أبي حامد؟ لن يكون جواب هذَا السؤال سهلًا لكنَّا نفترض مبدئيًّا، في هذه المراجعة، أشياء من الواضح أنها كانت حاثة على الاستعانة الكبيرة به دون تجشم عناءِ ذكره ولو لمرة واحدة! فالغزاليّ أحكم بناء عملِه الاقتصاد في عرضٍ فاق طريقة أستاذِه أبي المعالي الجويني (ت. 478هـ/ 1085م) عندما جعلَ طرفًا من الكلام السُنيّ سهل المأخذ تنسيقًا وبسطًا، وتلك طريقة من غير المستبعد أن يُعجبَ بها الأُسمنديّ، ويُشكل على منوالها صورًا من الكلام تحافظ على الخطوط العريضة لمخطط الماتريديّة المأثور مع استلهام معدّل وبيّن لبناء الاقتصاد (يُنظر مثلا: ص 58-81، 81-95، 98).

هذا عن المستوى الخارجي للنصّ؛ أما عن المستوى الداخليّ فلنا ملاحظة أن الأسمندي لخّص الدعوى الأولى للغزالي في «القطب الأول: النظر في ذات الله عز وجل» من الاقتصاد تلخيصًا بارعًا لم يخلُ من لمسةٍ ماتريديّة لا ترتضي كلّ ما يذهب إليه الغزالي (ص 58-67 قارنه بـ: الاقتصاد، ص 91-101؛ وص 78 بـ: الاقتصاد، ص 119-120)، ومن ثمّ أظهر صاحب اللباب إعجابًا بطريقة أبي حامد في عرض كل أصول نظرية «حدوث العالم». ويبقى اللباب مرة أخرى، وفيًّا للاقتصاد عندَ عرض نظرية الصفات الإلهية القائمة بالله بوجود موضوعيّ مستقل؛ حيث يقوم الأسمندي بصياغة فصل «الأسماء والصفات» بناء على سبع دعاوي على نحو مماثل لـ«القطب الثاني: في الصفات» من الاقتصاد (ص 81-90)، مُستصحبًا نقاشات الغزالي وشروحه الفنية والدلالية لمصطلحات عامة من قبيل: «ذات» و«قائم بـ» و«غير لـ» و«عين» و«صفة» وغيرها من المصطلحات الداخلة ضمن شبكة من الدلالات الفنية المستوعبة لجدلات متكلمي السنة المعتزلةَ (ص 90-95 قارنه بـ: الاقتصاد، ص 198-218). وإذا كانت آراء الغزالي في نظرية الفعل الإلهي تصدر عن رؤية أشعريّة فإنّ الأُسمندي يعرض رؤية ماتريدية مغايرة، على الأقل ظاهرًا، لفكرة الأشاعرة في المسألة دون إبداء تحفظات (ص 95-97).

وأخيرًا، لئن كانت حكايات الرازي لمناظراته علماء ماتريدية من آسيا الوسطى تنمّ عن حضور ما للغزالي داخلَ تقاليد الأحناف فإنَّ اللباب يعكس هذه الصورة تمامًا، وهو في ذلك يأخذ بنا إلى استنتاجيين مهمَّين. الأول، يجلي طبيعَة التقارب والتسامح، الذِي بدأه أحناف منهم الأسمندي طبعا، إزاء الفكر الأشعريّ في محاولة لرفع حدة التباعد الوهمي الذي تنضح به كتبٌ مرجعية داخل المدرسة من قبيل تمهيد أبي شكور السالمي (ت. 460هـ/ 1068م) وتبصرة النسفي، لكن مع الحفاظ، قدر المستطاع، على توازٍ بين المدرستين والتوجهين؛ أما الاستنتاج الثاني، فيأخذنا نحو سؤال يبقى مفتوحًا لا يمكن للقراءة، بأي حال، الإجابة عنه، ومقتضاه إلى أيّ حدٍّ يمكِّننَا اللباب من تزكية انطباعات الرازي السلبية عن مآل الفكر الماتريدي، في القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، من عَدم ذلك؟ وتبقى الإمكانات التأويلية والتاريخية المتاحة في نص اللباب مفتوحة ستساعد، دون شكّ، في وضعه ضمن سلسلة مفقود بعضها، إلى حد ما، من شأنها أن ترسم تعاليم الماتريدية لما بعدَ النسفي نحو أعمال أبي الثناء اللامشي (ت. قبل 520هـ/ 1126م) والصفار البخاري (ت. 533هـ/1139م) والنور الصابوني (ت. 580هـ/1184م) قبل أنْ يدخل المذهب مرحلة جديدة دشنها شمس الدّين السمرقندي (ت. 722هـ/1322م).


1* باحث في تاريخي علم الكلام والفكر الإسلامي الوسيط.

Ulrich Rudolph, Al-Māturīdī and the Development of Sunnī Theology in Samarqand, Rodrigo Adem (trans.) (Leiden: Brill, 2015); Ulrich Rudolph, “Ḥanafī Theological Tradition and Māturīdism,” in: Sabine Schmidtke (ed.), The Oxford handbook of Islamic theology (Oxford: Oxford University Press, 2016), p. 280-296.

2 Wilferd Madelung, “Māturīdiyya”, in: Peri Bearman et al. (eds.), Encyclopaedia of Islam, ed. 2, (Leiden: Brill, 1991), vol. 6, p. 847-48.

3 Wael Hallaq, The Origins and Evolution of Islamic Law (Cambridge: Cambridge University Press, 2005); Christopher Melchert, The Formation of the Sunni Schools of Law, 9th-10th Centuries (Leiden: Brill, 1997).

4 يُنظر: أبو شكور السالمي، التمهيد في بيان التوحيد، تحقيق: عمر تركمان (بيروت: دار ابن حزم، 2017)؛ محمد بن عبد الكريم البزدوي، أصول الدين، تحقيق: هانز بيتر لنس(القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، 1963)؛ ميمون بن محمد النسفي، تبصرة الأدلة، تحقيق: كلود سلامة (دمشق: المعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق، 1990-1993).

5 يُنظر: أبو حامد الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، تحقيق: أنس محمد الشرفاوي (بيروت: دار المنهاج، 2008).