من الهبة إلى الوقف أو ظاهرة تبادل المِلكية: جدلية الدين والسياسة في الوقف الإسلامي خلال العصر الوسيط

الحسن الغرايب*

doi:10.17879/mjiphs-2023-4612

ملخص

إن ارتباط الوقف الإسلامي بما هو فقهي فوَّتَ على الدراسات التاريخية معالجة الموضوع بعيدًا عن الأحكام ومراميها، مما جعل الرجوع لتاريخ الوقف أمرًا غير هين إلا ما وصلنا بالرواية المؤطرة بالنص الديني. وعلى هذا الأساس، تروم هذه الدراسة مقاربة موضوع الوقف من زاوية تاريخية، ومحاولة بناء تصور جديد لما يترتب عن تحول مسار المِلكية في التجربة الإسلامية، في الفترة الوسيطية بالمغرب الأقصى، من إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية وأثر ذلك في طبيعة الدورة الاقتصادية. كما تحاول الدراسة التركيز على جدلية الدين/ الفقه والسياسة/ السلطة في عملية الوقف، حيث أضحت مؤسسة الوقف، خلال الفترة قيد الدراسة، حيلة فقهية وملجأ للمُلاك للحفاظ على أملاكهم من مصادرة السلطة الحاكمة.

كلمات مفتاحية: الوقف؛ الفقه الإسلامي؛ السلطة؛ تبادل الملكية

* أستاذ التعليم العالي، تخصص التاريخ الوسيط، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بفاس، المغرب.

From gift to Waqf or the phenomenon of property exchange: The dialectic of religion and politics in the Islamic endowment in the middle ages

El Hassane Laghraib*

Abstract

The connection of the Islamic endowment “waqf” with Islamic law “fiqh” has prevented historical studies from addressing the issue away from legal rulings, which made returning to the history of the waqf not easy, except for what we have reached with the narration framed by the religious text. On this basis, this study aims to approach the waqf from a historical perspective, by attempting to construct a new perception concerning the implications of property transfer in Islamic civilization during the medieval period, in terms of the reproduction of social relations and its impact on the nature of the economic cycle. The study also attempts to address the relationship of religion/ fiqh with politics/authority in the process of property transfer, as the institution of waqf became, during the period under study, a jurisprudential strategy used by landowners and notables to preserve their property from confiscation by the rulers.

Keywords: Waqf; Islamic law; Authority;Property exchange

* University professor and researcher in medieval history, the regional center for pedagogy and education in Fez, Morocco.

مقدمة

ارتبط الحديث عن الوقف بالفقه، مما فوَّتَ على الدراسات التاريخية معالجة الموضوع بعيدًا عن الأحكام ومراميها، وفي الوقت نفسه ربط عملية التنازل عن الملكية بالتراث الثقافي للشعوب بمختلف انتماءاتها وهو ما جعل الرجوع لتاريخ الوقف أمرا غير هين إلا ما وصلنا بالرواية المؤطرة بالنص الديني(1). واعتبارًا لكون الوقف هو «حبس عين (...) على التأبيد»(2)، فإنه مؤشر قوي على التراتبية الاجتماعية(3) في ظل حركية داخلية لمكونات المجتمع العربي الإسلامي بالشرق كما بالغرب، وفق شروط التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية المحددة للحياة المادية والثقافية. وقد ظل الوقف على طبيعته دالا على البقاء، وواسما المجتمع بحضور ما هو مادي في مجمل ثنايا المعاملات ذات البعد الاقتصادي خاصة إذا كان هذا من قبيل العقار(4). وقد ظلت مسألة التنازل عن الملكية لصالح «المشترك الإسلامي» من الأمور التي لم تُتناول بالبحث في بعدها التاريخي، عكس تناولها وبشكل كبير فيما ارتبط بالمقدس المفضي إلى مسألة ديمومة الْبِرّ. والوقف بمعناه العام و بعيدا عن مرجعيته الدينية، هو وضع ما يمكن لشخص أو لأشخاص معينين الاستفادة منه دون غيرهم، إلا أن المتحصل من وراء ذلك يؤطر ليصبح نفعه حكرا على جموع المحبس عليهم أو المؤسسة التي يرجع لها أمر التصرف في ذلك وفق الشرط المنصوص عليه في التحبيس.

أولا. من الهبة إلى الوقف أو التحول في مسار الملكيات

إن التطور التاريخي للتخلي عن «الملكية» سبقته ممارسات لها جذور عميقة في المجتمع بدأت بالهبة باعتبارها «انتقال الملك بغير عوض»(5) إلى من هم في حاجة لذلك، والهبة في هذه المجتمعات ليست «آلية تعمل فحسب على مداولة الممتلكات والأشخاص وتضمن بذلك تقسيمها وإعادة توزيعها بين المجموعات التي تؤلف المجتمع؛ إنها أيضا، وبشكل أعمق، شرط إنتاج وإعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية التي تشكل الهيكل الخاص للمجتمع وتسم الروابط بين الأفراد والجماعات»(6) دون أن يكون هذا مدعاة لفرز اجتماعي قادر على تشكيل قوى إنتاج لها وقعها على تطور المجتمع. وهذه العملية في بعدها الاقتصادي لن تغير من طبيعة العلاقات الاقتصادية بقدر ما تؤبدها، لأن فعل نقل الملكية يبدو «وكأنه ينشئ في وقت واحد علاقة مزدوجة بين الذي يعطي والذي يتلقى»(7) وهو ما لا يُؤَثِّر في طبيعة الدورة الاقتصادية رغم انتقال الملكية عبر الحيازة الفعلية. إن الهبة والوقف فعلان لا يمكن القطع بكونهما فقط من التراث الإسلامي، بل إن وجودهما وإن اختلفت صيغ تعامل المعتقدات مع هذه الأشياء باعتبارها موضوعا لفعل نقل الملكية هو ما جعل أمر الرجوع إلى التاريخ(8) لضبط معانيهما من الأمور الأكيدة، وذلك لأجل سبر غور مجمل العلاقات المتولدة عن القيام بذلك.

فهذه العودة تحيل إلى الاستمرارية في بنية الفكر الديني العربي الإسلامي لمفهومي «الهبة»(9) والوقف، ومحاولة بناء تصور جديد من خارج مجال المقدس لما يترتب عن القيام بهذه العمليات فيما بعد من وقع اقتصادي على المجتمع. واعتبارا لكون الهبة «فعل تبادل وسخاء» بين مكونات المجتمع أو بين المنحدرين من نفس الأسرة (آباء، أبناء، أقارب بالدم...)، فإنه يحتاج إلى «شبكات متنوعة وغير محددة لتبادل الثروة والخدمات»(10) التي لن يكون لها وقع اقتصادي إلا بدخولها دائرة التبادل وهو ما لا يمكن حصوله في ظل اقتصاد غير مُفْضٍ إلى بديله. فكل ما يُوهَب سواء بحمولته الدينية أو دونها يمثل نظاما اجتماعيا أي «يعد موضوعا للتبادل»(11) باعتباره سلعة. ومن هنا نجد أن الواهب بمجرد تحديده لما سيهبه فإنه يَسِمُه بهويته(12)، مما يجعلنا نستحضر في سياق النص الديني ديمومة أسماء الواهبين وارتباطها بذواتهم على الرغم من انتقال الملكية للآخر وبقائها معبرة «عن نفسها وتقدم ذاتها بصفتها رابطة روحية»(13) تجمع بين الطرفين ولا يمكن التفريط في أحدهما.

إن الهبة تشكل في هذه الحالة بنية العلاقات الاجتماعية القائمة بين كل الأفراد، سواء من نفس «العائلة» أو «المشترك»، المستفيدين فعليا من عائد الهبة المُكَوِّنة للبنية التحتية «للجمعنة الثانوية» socialité secondaire (14). إنَّ التخلي عن الملكية لصالح الغير وجعلها في حيازته هو ما يجعل إمكانية العَوَض غير ذي معنى لأنها «من التبرعات المندوبة كالصدقة لما فيها من المحبة وتأليف القلوب»(15). وبتقعيد معنى الهبة وشروطها أصبح للوقف معنى باعتباره يهم، في جزء منه، «المشترك» الحادث فيه والمستفيد منه بحكم الطبيعة والغرض. فالوقف على العموم «مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف في رقبته على مصرف مباح»(16) لكونه يهم «البر» لـ«مساعدة الفقراء والمساكين» وحتى عابري السبيل وطلبة المدارس من عائد خصص ريعه للعمل الخيري(17)، لكن وضع الأراضي ظل غامضا في الفترة الوسيطية ولم يكن أبدًا مستقرًا. فالأرض خضعت لقوانين عدة أملتها مسألة الحصول عليها «عنوة» أو «صلحا» مما جعل «لملكيات الأراضي في الإسلام علاقات وثيقة بالتغيرات الاجتماعية والاقتصادية»(18) التي أفرزت نوعية التعامل مع المالكين القدامى أو الطارئين(19). وقد أثرت هذه الوضعية على نوعية العلاقات بين المالكين في نفس الجهة وبين السلطة المركزية ممثلة بقادة الجيش والولاة والقضاة لما لهم من سلطة في هذا المضمار. وبنفس الغموض نرى أن الأراضي المنتقلة إلى «الوقف» الخيري رغم تأطيرها فقهيا، ظلت بعيدة عن المراقبة وخاصة تلك المرتبطة بمؤسسات دينية (مساجد،أضرحة، زوايا، مدارس....)، مما عَقَّد مسألة تتبع صرف مستخلصاتها خاصة في فترة الأزمات؛ سياسية كانت أو طبيعية(20). وعلى الرغم من قدم عملية التحبيس على المنشآت الدينية المتمثلة في المساجد والتي استمرت بعد دولة الأدارسة(21)، فإن صرف مواردها على ما تقوم به من وظائف يجعلنا نُسَائِل مصادرنا عن الكيفية التي تتم بها عملية ضبط إنتاج الأراضي الموقوفة لأجل عمل هذه المنشآت الدينية وغيرها، علما أن ذلك غير وارد بأي من المصادر المعروفة. وتظل مع ذلك الأخبار الواردة في كتب المناقب والفتاوى والتاريخ العام معينا لا ينضب لما تم وقفه على المؤسسات الدينية بالفترة المرينية، وهكذا نجد بمراكش أوقافا كثيرة، خارج المدينة(22)، من العقارات التي كان كراؤها وبيع غلاتها موقوفا على المساجد والمدارس. ونفس الشيء بفاس؛ حيث كانت «أوقافها جارية»(23) لكثرة التحبيس من الفترة الإدريسية إلى عهد سلطنة بني مرين، غير أن هذا الأمر لم يكن واضحا بالنسبة للسلطة المرينية التي لم تسمح لنا مصادرها بفهم القضايا الضريبية والمالية(24) المعمول بها آنذاك، وكذا وضع أراضي الأحباس الكثيرة، والكيفية المتعامل بها مع كل المستخلصات الناتجة عن استغلالها.

بتعدد مصادر الوقف ظلت الهبة(25) على الهامش، ولم يتم التطرق إليها إلا في سجلات العدول باعتبارها من المعاملات التي لا ترقى إلى مستوى الوقف المخصص للمؤسسات الدينية، والاجتماعية المستمر عملها بوجود «رصيد» منقول وغير منقول لا معروف كله لدى مؤرخي الفترة(26) لكثرة ما تداول فيه الفقهاء وأصدروا الفتاوى بشأنها. وأخذا بعين الاعتبار ما جاد به أصحاب الوقف من عقارات للمؤسسات العلمية والدينية، فإننا أمام ظاهرة لم تعرفها العصبيات السابقة، وقد وسمت كل الفترة المرينية «بِحُمَّى» وضع الأملاك رهن إشارة «نظارات الأحباس» وهو ما وافق عقيدة المرينيين المفتقدة لشرعية دينية، زيادة على صراعها مع «النخبة» الدينية بفاس المعتمدة على الشرف العائد إلى الأصول الإدريسيّة(27)، مما حتم على السلطة المرينية بناء «المدارس» باعتبارها «عنصرا آخر من عناصر عقيدة المرينيين الأوائل المعتمدة تجاه الرعية»(28) لاستمالتها، وفي نفس الوقت خلق «نخبة دينية» قادرة على ضبط المجال العام و«التحكم في الحياة الدينية»(29).

يبدو أن الوقف الخاص بالعقار قد ازدهر في العصر المريني، من خلال بناء المدارس والبيمارستانات والمساجد، فأصبحت بذلك هذه المؤسسات لها هيبتها المجسدة في القائمين عليها من «النخبة» الجديدة الموالية للمرينيين(30) لمواجهة مد الفقهاء الداعمين للأدارسة، خاصة بعد تنامي الشعور المعادي للسلطة الجديدة. أسهمت هذه العمليات في ضبط المجال وترويضه لصالح السلطة، مع إعلاء ما ينتج عن «الوضع الوقفي» من تدبير الشأن الخاص بهذه المؤسسات ما أعطى لهذه الأوقاف وضعا خاصا عبر إمكانية تملك السلطة لمجالاتها، مما سهل أمر حماية الوقف المرتبط بالمؤسسة، وفرض الشرعية عبرها.

إن توظيف الرأسمال الرمزي للسلطة المرينية عبر كل هذه العمليات سمح بإعادة هيكلة مجال حكمها، وجعلها قادرة على «تحييد» مفهوم «الشرعية» الدينية السابق وتعويضه بشرعية مبنية على إحداث ما يمكن أن يجعلها قادرة على الوقوف أمام تنامي قوة «الأشراف» الأدارسة. فالتأسيس للسلطة في شكلها الجديد والبعيد عن دائرة القدسي وارتباطه فقط بعصبية قبلية ضاغطة في الوقت المناسب من بداية انهيار السلطة السابقة، احتاج إلى ما يعضده في سياقاته(31) الرامية إلى أخذها، مما يدره الوقف من هَيْبَة، وما يُؤَسَّس له مستقبليا من داعمي المشروع في كليته؛ «النخبة العالمة» القادرة على كبح جموح «فقهاء الأشراف»، والاستجابة في الوقت نفسه لمن سيكون الذراع الجديد للسلطة الصاعدة من غير ساكنة مدينة فاس المعروفة بعدائها للسلطة السابقة أواخر عهدها، والاعتماد على فقهاء المجال الذي طالته سلطتهم سابقا -الغرب- في صراعهم مع الموحدين(32)، على اعتبار أن «الخزان» الفكري لن يكون إلا من أريافها(33) ومدنها، خاصة مكناسة. نستنتج من هذا أن الوقف وإن كان ظاهره «فعل بر» فإنه يتضمن رؤية جديدة للسلطة السياسية في تعاملها مع المجال سواء داخل المدن أو خارجها.

والوقف في عموميته يمنح «الْهَيْبَة» لكونه يعيد إنتاج العلاقات الاجتماعية بإعلاء سلطة «المتلقي» أي ناظر الأحباس وفي نفس الوقت القاضي المكلف بالقضايا الخاصة بالملكيات الموقوفة سواء على المؤسسات أو الأفراد(34)، وهذا يجعل من المركز الاجتماعي الناتج عن التصرف فيما هو «وقف» قوة حقيقية تؤهل لممارسة ضغط اقتصادي يتماهى رمزيا مع السلطة، وهو ما خلق معنى جديدا للوقف في هذه الفترة من تاريخ المغرب الوسيطيواعتبارا لكون «الوقف» ملكية قابلة للحيازة(35)، فإنه يبدو في عمقه، وعلى غرار الوهب، علاقة أخذ وعطاء(36)، وعلى أساس هذا المعطى تصبح الملكية الموقوفة على مؤسسة ما أساسا لتحديد طبيعة العلاقات الاجتماعية بين الأفراد المانحين وباقي المكونات الاجتماعية الأخرى. فعملية استغلال الملكيات الموقوفة سواء من أجل مؤسسات بعينها أو غيرها يقتضي وجود تداول لأجل خلق قيمة معينة عبر استهلاك الناتج عن العمل، ومادامت الأراضي الموقوفة من أجل «الْبِرّ» تقتضي وجود قوة عمل «فإن العمل المنتج هو مجرد اختصار لمركب كامل من نشاطات العمل (...) وهكذا حين نتحدث عن عمل منتج، فإننا نقصد عملا محددا اجتماعيا، يتضمن علاقة خاصة تماما تساوي بين العمل وبائعه»(37) المتمثل في «المتحكم» في أراضي الوقف القابلة للكراء والاستغلال لأجل مصلحة ما، مرتبطة بالمرصود له ناتج كل هذه العملية.

فالوقف مع ذلك غير حاضر بالنسبة لدورة اقتصادية لا يظهر فيها العمل المستثمر بصيغته الاجتماعية إلا بعد الاعتراف بما تدره هذه العقارات من مواد قابلة للتبادل باعتبارها تنتج مَالاً يتم إنفاقه على المؤسسات المُحَبَّس عليها العقار، لكن هذا النوع من الاستفادة يطرح عدة أسئلة حول الأسس المُعتمَدَة في «اقتصاديات الوقف»، لذا فتاريخية العمل الوقفي تقتضي التفكير في كل مآلات المنقولات العقارية التابعة للأوقاف وما تدره عليها من أموال. وعلى هذا الأساس يمكن أن نقول بأن الأرض الموقوفة وإن تعددت صيغها لن تخرج عن التصور الذي يحكم عقيدة السلطة، لذا، فـ«إن العلاقة بالأرض ببلاد المغرب الإسلامي تخضع فيما يبدو لنظرة تجعل الفرد في آخر السلم، فالأرض هي أولا للحاكم ولعصبيته ثم لله بعد ذلك، ثم للأفراد سواء في إطار تملك جماعي أو فردي في خاتمة المطاف»(38).

ثانيا. الوقف والمصادرة والعلاقة الفقهية الغامضة

ارتبط الوقف في ذهنية «العامة» بتنازل عن مِلك لـ«مصلحة» ما، دون إفصاح عن الدوافع الكامنة وراء هذا الفعل، سواء كان ذلك تحت «ضغط» أو «إكراه» و«غصب» أو تقربًا من الله، مع العلم أن «الأدب الفقهي» أفرد فقرات عديدة لكل ما تعلق بالوقف سواء في شكل فتاوى أو شروح، حيث احتلت قضايا الوقف حيزا كبيرا في التراث الفقهي الإسلامي بمذاهبه، و دراسته في علاقته بالحوادث الطارئة بالمجتمع تجعل منه منهلا لا ينضب للدراسات التاريخية، لما عرفه المجتمع من قضايا ارتبطت بالأرض والتعامل بما تدره من ثروة تدخل ضمن الدورة الاقتصادية العامة.

إن عملية تناول الوقف لن يخرج عن هذه الدائرة، لكون سيرورة التاريخ هي المتحكمة في تحول مالكي الأرض إلى واهبين أو مُحَبِّسين لها، ويعتبر هذا من وجهة النظر الاقتصادية تجميد حركية الإنتاج السابقة، وجعلها تصب في منحى واحد مما يربطها بتفقير أصحابها، خاصة إذا ما كان ذلك بفعل «ضغط» ممارس من سلطة قوية تضعهم تحت وطأة ضَنَك العيش، أو تحت رحمة ما توفره المؤسسات التي مُنِحَت حق تدبير أمرها، لأنها مؤسسة بِر. ورغم وفرة القضايا المتناولة في المصادر الفقهية عن الوقف بكل أشكاله، فإننا نجد في المقابل فقرا في أخبار المصادرات والاستصفاء للأراضي والأموال من قِبل «السلطان»، وأمام خوف جاثم على نفوس الملاك بكل أصنافهم «عواما» و«نخبا»، فقد أضحى باب التحبيس والوقف ملجأ الأمان الوحيد من «غائلة» السلطة باعتباره «فرارا من سيف المصادرة الأعمى»(39) المسلط على «الذين تملكوا عقارات المدن وأراضي الضواحي اٌلْمُبَسْتَنَة إلى حيلة فقهية للإمام التاجر أبي حنيفة: وقف أملاكهم على مؤسسة دينية أو خيرية مقابل الزكاة، وأن تؤول لها بعد انقراض نسلهم»(40)، وهو إجراء معمول به فقهيا لتفادي عملية التفقير المطلق.

إن الوقف بهذه الصفة لن يشكل علامة فارقة في عمليات التبادل رغم كونه ثروة غير متداولة(41) مما يزيح عنه سمة «السلعة» القابلة للتداول، إذ «الواقع الملموس والخاص لكل سلعة لا أهمية له إلا من حيث كون استخدامها أساسا لقيمة تبادلية تتحول فيها هذه الأخيرة إلى مال يجلب المال، أي إلى رأسمال»(42)، وهو ما لا يمكن الوصول إليه في ظل وجود المالك الأسمى الحقيقي لأهم وسائل الإنتاج وعلى رأسها الأرض؛ إما ملكية معلنة وإما ملكية مقنعة عبر الضرائب والمصادرة»(43). وقد ظلت السلطة وفية لنهجها في مصادرة الأراضي؛ خاصة أثناء فترات انتقال السلطة من عصبية لأخرى، بحيث تصبح الأرض باعتبارها موردا للحياة جزءا من وسائل العقاب الجماعي لمن يعارض السلطة الجديدة. استعمل الموحدون سيف المصادرة على أهل مكناسة بعد أن أعان أهل زرهون جيوش الموحدين «على محاصرة مدينة مكناسة، فكانوا أبدا مبغضين لأهل تلك البلاد، وكانوا بسبب سبقهم أحرارا من المغارم، كتب لهم بذلك صكوكا كانت بأيديهم، ولم يتعرض لأموالهم كما فعل بالأملاك التي أخذت عنوة»(44) من أهل البلد ولم ينج منها أي أحد حتى أن الساكنة ضاقت بما نزل بها من المغارم جراء عدم إعلان البيعة شأن أهل جبل زرهون.

لم تتوان السلطة في إعمال المصادرة للأموال والأراضي حتى بعد انهيار سلطة الموحدين ولم يسلم من هذا الإجراء شيء، بما في ذلك أراضي الوقف سواء عبر أحكام القضاة أو العمال، ولم تنج من ذلك موارد المؤسسات الوقفية؛ إذ استعملت لأغراض لا علاقة لها بما هي مرصودة له. وقد صادر السلطان المريني أبو سعيد عثمان الثالث، بإشارة من وزرائه، أموال مؤسسات خيرية بعد أن أصبح في «أشد الحاجة إلى المال، أشاروا عليه ببيع إيراداتها وأملاكها. ولما رفض السكان بيعها تقدم أحد وكلاء الملك وأفتاه بأن هذه البيمارستانات إنما أسست بفضل الصدقات التي قدمها أسلاف الملك الحالي الذي يوشك أن يفقد مملكته، فيستحسن والحالة هذه بيع تلك الأملاك لصد العدو المشترك، حتى إذا وضعت الحرب أوزارها سَهُل شراؤها من جديد. وهكذا بيعت هذه الأملاك. وتوفي الملك قبل أن يحصل شراء أي عقار جديد»(45). يعتبر هذا الحدث من الأمور العادية في ظل سلطة مركزية «توسلت(...) المصادرة والضرائب، وهما وسيلة البيروقراطية الشرقية لتركيد قوى الإنتاج ومنع تعاقب الطبقات على السلطة»(46). يبدو من هذا الحدث الدال، أن ما تضمنه النص الديني انمحى أمام قوة الواقع وزخم الأحداث القادرة على «مصادرة الشرع» وإلغاء منع بيع ما تم وقفه، وإن كان مخصصا لمؤسسات ذات طابع خيري(47) أسستها سلطة المرينيين لإضفاء شرعية دينية على حكمهم، والتي كانت مفقودة بعد انهيار سلطة الموحدين. وتظل المصادرة بالغرب الإسلامي في الفترة الوسيطية وسيلة عنيفة تبعد الفتوى عن قاعدتها الدينية، وتطلق في آن قوة السلطة القادرة على الأخذ بالمبادرة متحدية في ذلك «شرعية فقهية» مقابل «شرعية واقعية» أثناء شعورها بوجود «أزمة» قادرة على تدمير آليات السلطة المركزية. وقد امتدت عملية المصادرة إلى محيط السلطة المركزية كلما توجست من قوة ونفوذ زائدين لوزرائها، مما جعل من هذا الإجراء رادعا لكل من يحاول تجاوز الحدود المرسومة له؛ سواء بإغضاب «السلطان في المحاورة والخطاب»(48) كما فعل منديل أيام أبي سعيد المريني بتخطيه لكل الحدود ولعبه على حبل الولاء لمن هو أقوى، مما أدى إلى سخط السلطان عليه «وأذن لابنه الأمير أبي الحسن في نكبته، فاعتقله واستصفى أمواله، وطوى ديوانه وامتحنه أياما، ثم قتله بمحبسه خنقا، ويقال جوعا»(49).

ظل تاريخ الدول المتعاقبة على المغرب الأقصى في مجمله، بعيدا عن الإفصاح عما يلي القتل والمسخطة، باستثناء بعض الأخبار العارضة والمتعلقة بصراع حول السلطة أو اصطفاف بطانة السلطان إلى جانب مناوئيه، وهو ما وقع للوزير محمد بن عثمان حين «اعتقل أياما وامتحن في سبيل المصادرة ثم استصفى. ثم قتل ذبحا بمحبسه»(50). والمصادرة بهذه الحالة، والمتبوعة بالاستصفاء، دليل قاطع على كون المالك الفعلي للأرض في المجالات العربية الإسلامية هي «مؤسسة السلطان» بدون منازع، وأن ابتداع حيلة الوقف هي مراوغة دينية لوقف هذه العملية العنيفة.

يبدو تناول قضية الأرض مسألة شائكة لأنه «في جميع العصور كانت الدولة العربية أو الإسلامية هي المالك الأسمى الحقيقي لأهم وسائل الإنتاج وعلى رأسها الأرض، إما ملكية معلنة وإما ملكية مقنعة عبر الضرائب والمصادرة»(51). وتناول العلاقة بين المصادرة والوقف في مصادر التاريخ، وكذا كتب المناقب والفتاوى لا يمكن الوقوف عليها إلا ما ارتأى أصحابها ذلك وخاصة ما له علاقة بوضعية لها ارتباط بالسلطة(52)، وقد أدى هذا الغموض إلى تناول «بيع المضغوط»(53) و«بيع الغصب» وكأنها وليدة طبيعة الأنشطة الاقتصادية المعروفة آنذاك. لكن هذا النوع من البيع دفع البعض إلى التحايل حتى لا تصادر أرضه، وهي ردة فعل لها ما يسوغها دينيا. وقد وجد في فترة المرينيين من كان تحت إمرته «ودائع أموال الأوقاف»(54) مثل خطيب جامع القرويين أبي الفضل محمد بن أبي الحسن المزدغي المتصرف فيها بالإنفاق على غير ما لديه من ماله أو ما استأمن عليه من أموال الوقف الخاصة بالتركات حتى أصبح مستغرق الذمة(55) وتمت عملية عزله(56) بسبب هذا الفعل وأخذ ما بيده وترك له السلطان أبي الحسن المريني «قدر ما يكفيه لمسكنه وأولاده وما يستغله ويجتزي به بقدر كفايته وأسوغ له مرتبا يكفيه وموضعا يحرثه»(57)، ويستشف من الحدث، وأمثاله، أن التطاول على الوقف ليس حكرا على السلطة المركزية بل يتعداه إلى المشرفين على ضبط مداخيله وصرفها في الأوجه المحددة لها وهوما يلغي «توظيف الأموال المنهوبة في إعادة إنتاج موسعة للثروة الخاصة أو العامة، بل، أساسا، من أجل استهلاك فوري، استعراضي»(58). والمصادرة بحد ذاتها فعل طال القبائل ولم تنج منه حتى تلك المعتمدة في قوتها على مَنَعَة مجالها، ويظل أمر البحث في هذا الشأن مضنيا لتعذر وجود ما يُمَكِّن من تفسير القضايا المرتبطة بملكية قبلية للأراضي القابلة للمصادرة من قبل السلطة المركزية في حال وجود دافع لذلك. وتعتبر مجمل النزاعات القبلية الطارئة والأخرى المرتبطة بالتنافس على اعتلاء سلطان المغرب من بين الأسباب الوجيهة المؤدية إلى «أزمة القرن الرابع عشر»(59)، بسبب أن تكاثر الإقطاعات وتصرف رؤساء القبائل فيه أضعف بشكل كبير مراقبة أراضي الوقف البعيدة عن مركز السلطة بفاس؛ باستثناء تلك التي كانت بيد النظار والقضاة وممسوكة في حوالات خاصة. في ظل هذا الوضع لم يكن رؤساء القبائل في المناطق البعيدة عن مركز السلطة مضطرين أصلا إلى التمييز بين أراضي الوقف وغيرها، إذ كانوا هم الملاك الفعليون لكل ما ينتج.

أصبح الوقف في فترات الأزمات معينا لا ينضب للمال، فعائداته ستؤول لمن وضع يده عليه، وقد حدث أن باع أمراء وأبناؤهم أملاكا وأوقفوا بعضها عملا بمبدأ إلغائه فيما بعد وهي من الإجراءات التي يلجأ إليها المضطر في مثل هذه الأزمات للحفاظ على ملكية ما بيده من العقارات، ولنا في عمل بعض سلاطين بني وطاس الحجة فيما ذهبنا إليه، من وجود «نسخة براءة كريمة واجبة من الجانب العلي المولوي (...) بيع ما يرى ويظهر من الأراضي المخزنية التي بحوز تازى (...) وتحبيس ما يرى ويظهر»(60)، وعلى الرغم من كون هذا الإجراء الذي تركه العدول لواقعة بتازة فيما يخص وقف ملك مخزني، فإننا نعتبره أنموذجا لوقائع أخرى لم تفصح عنها المخطوطات غير المحققة أو تلك التي لا زالت دفينة خزائن مالكيها. وعند الوقوف على هذا العمل في مثل هذا الظرف نجد أن السلاطين «وجدوا في الوقف سبيلا للمحافظة على أملاكهم وتأمين مورد دائم لأنفسهم وأولادهم»(61)، لأن العين الموقوفة تظل بيد مالكها وإن طالت المدة المخصصة لاستفادة من تم تعيينه مستفيدا من إيراداتها، وهو حكم المالكية فيما تعلق بالأوقاف سواء أكانت عقارات أو غيرها مما يجوز وقفه لوجه الله أو لغيره.

خاتمة

إن ارتباط الوقف، من جهة كونه نوعا من الملكية للأرض، بما هو ديني، يمكننا من تشكيل صورة عن نوع الملكيات في الفترة الوسيطية بالمغرب الأقصى، وطريقة التعامل معه في ظل وجود نصوص فقهية ضابطة له -أي الوقف- على المستوى النظري دون أن تصل لتقنينه واقعيا. والوقف عمليا لا يمكن ربطه بباقي وسائل الإنتاج لركود بنيته، وانعدام القدرة على تطوير بنية الإنتاج، وجعله قاطرة تغير وضعية الفلاحين والمستثمرين في ظل «نمط إنتاج» غير واضح المعالم وسيادة سلطة القبيلة في تواز مع سلطة مركزية لم تستطع القطع مع ماضيها القبلي وبناء «الدولة» القادرة على إدماج الكل.

قائمة المراجع

ابن أبي زرع، علي. الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس. الرباط: دار المنصور للطباعة والوراقة، 1972.

ابن إياس، زين العابدين محمد. بدائع الزهور في وقائع الدهور. تحقيق: محمد مصطفى. ط 2. القاهرة: [د. ن.]: 1960-1963.

ابن الخطيب، لسان الدين السلماني. كتاب معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار. تحقيق: محمد كمال شبانة. القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، 2002.

ابن خلدون، عبد الرحمن. تاريخ ابن خلدون المسمى ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر. تحقيق: خليل شحادة وسهيل زكار. بيروت: دار الفكر، 2000.

ابن لب، أبو سعيد الغرناطي. تقريب الأمل البعيد في نوازل الأستاذ أبي سعيد. تحقيق: حسين مختاري وهشام الرامي. بيروت: دار الكتب العلمية، 2004.

البرزلي، أبو القاسم بن أحمد البلوي. جامع مسائل الأحكام لما نزل من القضايا بالمفتين والحكام. تحقيق: محمد الحبيب الهيلة. بيروت: دار الغرب الإسلامي، 2002.

التجيبي، ابن الحاج القرطبي. نوازل ابن الحاج التجيبي. تحقيق: أحمد شعيب اليوسفي. تطوان: منشورات الجمعية المغربية للدراسات الأندلسية، 2018.

التلمساني، محمد بن مرزوق. المسند الصحيح الحسن في مآثر ومحاسن مولانا أبي الحسن. تحقيق: ماريا خيسوس بيغيرا. الجزائر: الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1981.

الحسني، عبد الحق ابن المجدوب. الحوالات الحبوسية ودورها في حفظ الممتلكات الوقفي. فاس: منشورات المجلس العلمي الإقليمي بفاس، 2003.

حوالة أحباس تازا. المكتبة الوطنية للمملكة المغربية. الجزء 6، رقم 134، لوحة 188.

الدردير، أبو البركات أحمد بن محمد بن أحمد. الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك. تحقيق: مصطفى كمال وصفي. القاهرة: دار المعارف، 1986.

الدوري، عبد العزيز. أوراق في التاريخ والحضارة: أوراق في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي. بيروت: دار الغرب الإسلامي، 2007.

الشافعي، محمد بن إدريس. كتاب الأم. ط 2. بيروت: دار المعرفة، 1973.

الشنقيطي، أحمد بن أحمد المختار الجكني. مواهب الجليل من أدلة خليل. مراجعة عبد الله إبراهيم الأنصاري. قطر: مطبوعات إحياء التراث الإسلامي، 1987.

العثماني، محمد ابن غازي. الروض الهتون في أخبار مكناسة الزيتون. تحقيق: عبد الوهاب ابن منصور. ط 2. الرباط: المطبعة الملكية، 1988.

عياض، القاضي وولده محمد. مذاهب الحكام في نوازل الأحكام. تحقيق: محمد بن شريفة. ط 2. بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1997.

غودولييه، موريس. لغز الهبة. ترجمة رضوان ظاظا. دمشق: دار المدى، 1998.

الفاسي، ابن أبي زرع. الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس. الرباط: دار المنصور للطباعة والوراقة، 1972.

فتحة، محمد. النوازل الفقهية والمجتمع: أبحاث في تاريخ الغرب الإسلامي (من القرن 6 إلى 9هـ/12-15م). الدارالبيضاء: منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 1999.

الفراء، أبو يعلى محمد بن الحسين. الأحكام السلطانية. تصحيح محمد حامد الفقي. بيروت: دار الكتب العلمية، 2000.

القرشي، ابن آدم. كتاب الخراج. تحقيق: أحمد محمد شاكر. بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر، 1979.

كيلة، سلامة. مقدمة عن ملكية الأرض فـي الإسلام. دمشق: دار المدى للطباعة والنشر، 2001.

لاكوست، إيف. العلامة ابن خلدون. ترجمة ميشال سليمان. ط 2. بيروت: دار الفارابي، 2017.

ماركس، كارل وفريدريك إنجلز. البيان الشيوعي: في أول ترجمة غير مزورة. ترجمة العفيف الأخضر. بيروت/ بغداد: منشورات الجمل، 2015.

ماركس، كارل. رأس المال: عملية إنتاج رأس المال. ترجمة فالح عبد الجبار. بيروت: دار الفارابي، 2013.

ماندل، إرنست. النظرية الاقتصادية الماركسية. ترجمة جورج طرابيشي. بيروت: دار الحقيقة، 1972.

المقريزي، تقي الدين أبي العباس أحمد بن علي. كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار. المعروف بالخطط المقريزية. بيروت: دار صادر [د. ت.].

المنوني، محمد. ورقات عن الحضارة المغربية في عصر بني مرين. ط 3. الرباط: منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية/ الدارالبيضاء: مطبعة النجاح الجديدة، 2000.

موس، مارسيل. بحث في الهبة: شكل التبادل وعلته في المجتمعات القديمة. ترجمة المولودي الأحمر. بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2011.

ميارة، محمد بن أحمد بن محمد. نصيحة المغترين وكفاية المضطرين في التفريق بين المسلمين بما لم يلزمه رب العالمين ولا أخبر به الصادق الأمين ولا ثبت عن الخلفاء المهديين. تحقيق: محمد الغرايب ومصطفى بنعلة. الرباط: مطبعة الرباط نت، 2013.

الناصري، أبو العباس أحمد بن خالد. الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى. تحقيق: جعفر الناصري ومحمد الناصري. الدارالبيضاء: دار الكتاب، 1955.

نصر الله، محمد علي. تطور نظام ملكية الأراضي في الإسلام. بيروت: دار الحداثة، 1982.

الهيثمي، ابن حجر. تحفة المحتاج بشرح المنهاج. تحقيق: سيد بن محمد السناري. القاهرة: دار الحديث، 2016.

الوزان، الحسن بن محمد. وصف إفريقيا. ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر. ط 2. بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1983.

الونشريسي، أبو العباس أحمد بن يحيى. المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب. خرجه جماعة من الفقهاء. الرباط: منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية للمملكة المغربية/ بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1981.

Bernard, Rosenberger. “Ahmed Khaneboubi, Les premiers sultans mérinides (1269-1331). Histoire politique et sociale [compte-rendu]”. Annales. Economies, sociétés, civilisations. 43ᵉ année, no. 6 (1988), p. 1396-1399.

Caillé, Alain. “‘Ce qu’on appelle si mal le don...’. Que le don est de l’ordre du don malgré tout”. Revue du MAUSS. vol. 2, no. 30 (2007), p. 393-404.

Caillé, Alain. Anthropologie du don: Le tiers paradigme. Paris: Desclée de Brouwer, 2000.

Chevalier, Sophie. “De la marchandise au cadeau”. Revue du MAUSS. vol. 2, no. 36 (2010), p. 197-210.

Duby, Georges. Guerriers et paysans: VIe-XIe siècles. Premier essor de l’économie européenne. Paris: Gallimard, 1973.

Fagnan, Edmond (ed. & trans.). Extraits inédits relatifs au Maghreb (géographie et histoire). Alger: Ancienne Maison Bastide-Jourdan, 1924.

Godbout, Jacques. “De la continuité du don”. Revue du MAUSS. vol. 1, no. 23 (2004), p. 224-241.

Godbout, Jacques. Ce qui circule entre nous : donner, recevoir, rendre. Paris : Le Seuil, 2007.

Serres, Michel. Rome le livre de la fondation. Paris: Flammarion, 1983.

Shatzmiller, Maya. “Islam de campagne et Islam de ville. Le facteur religieux à l’avènement des Mérinides”. Studia Islamica. no. 51 (1980), p. 123-136.

Shatzmiller, Maya. “Les premiers Mérinides et le milieu religieux de Fès: l’introduction des Medersas”. Studia Islamica. no. 43 (1976), p. 109-118.

Shatzmiller, Maya. L’historiographie Mérinide: Ibn Khaldŭn et ses contemporains. Leiden: Brill, 1982.

Testart, Alain. Critique du don. Étude sur la circulation non marchande. Paris: Syllepse, 2007.

X.... “Réponse à Alain Caillé”. Revue du MAUSS. vol. 1, no. 27 (2006), p. 79-83.


1 ورد عند الشافعي انعدام وجود وقف أو ما يُمكن أن يُحبَس قبل الإسلام، واعتبر ذلك من الأمور التي اختص بها الدين الإسلامي دون غيره، حيث يقولإنما حبس أهل الإسلام»، يُنظر: محمد بن إدريس الشافعي، كتاب الأم (بيروت: دار المعرفة، ط2، 1973)، ج 4، ص 52؛ وهو حكم على طبيعة ما يُجعَل الاستفادة منه في فترة ما دون الرجوع إلى تاريخ المجتمعات بما فيها عرب ما قبل الإسلام.

2 أحمد بن أحمد المختار الجكني الشنقيطي، مواهب الجليل من أدلة خليل، مراجعة عبد الله إبراهيم الأنصاري (قطر: مطبوعات إحياء التراث الإسلامي، 1987)، ج. 4، ص 162؛ وهذا ما ورد في الشرح الصغير من كون الحبس والوقف «يفيدان التأبيد مطلقا قُيِّد أو أطلق»، يُنظر: أبو البركات أحمد بن محمد بن أحمد الدردير، الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك، تحقيق: مصطفى كمال وصفي (القاهرة: دار المعارف، 1986ج 4، ص 103.

3 لم يتم تناول الوقف والحبس إلا في إطار تقديم «خدمات» للفقراء من عامة المسلمين أو القيام بترميم وبناء مؤسسات لها ارتباط وثيق بالمعتقد رغبة في ثواب أخروي وفي نفس الوقت محاولة لطمس عنف العوز وضنك العيش. غير أن هذا يعطينا صورة جلية عن التفاوت في المجتمع والصراع من أجل الارتقاء الاجتماعي. وقد أدى ارتباط العامة بالوقف إلى الانتفاضة على السلاطين خاصة بالشرق الإسلامي، حيث تمردت على قرار جباية مداخيل من هذه الأوقاف في الفترات التي تكون فيها السلطة بحاجة إلى الأموال، والتمرد موقف واضح وقوي من الممارسات السلطوية التي تمس أرزاق الناس. يُنظر في هذا الصدد: زين العابدين محمد بن إياس، بدائع الزهور في وقائع الدهور، تحقيق: محمد مصطفى، ط 2 (القاهرة: [د. ن.]، 1960-1963)، ج 4، ص 17؛ أما بالغرب الإسلامي فلم نقف -في أي مصدر- على أي تمرد مرتبط بالموقف من الوقف أو كيفية تصريفه في الفترة الوسيطية، وهو من الأمور التي يجب البحث فيها من جديد، بالاعتماد على التراث والنصوص التي لم تحقق بعد، أو التي ضاعت وبقي منها شذرات في المخطوطات المختلفة.

4 تفطن الفاطميون القادمون إلى مصر من إفريقية لأهمية الأراضي الزراعية، مما دفعهم إلى منع وقف الضياع و تحبيس البلاد، وصار قاضي القضاة يتولى أمر الأحباس من الرباع وإليه أمر الجوامع والمشاهد وصار للأحباس ديوان مفرد، يُنظر: تقي الدين أبي العباس أحمد بن علي المقريزي، كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (بيروت: دار صادر، [د. ت.]) ج 2، ص 295؛ ويُعد هذا الإجراء دالا على أهمية الأرض الزراعية بالنسبة للسلطة المركزية ومدى الاستفادة منها بشكل مباشر، عبر الضرائب والخراج وغيرهما. إضافة إلى هذا كانت الأموال المجباة والمتحصلة من أوقاف الرباع تودع في بيت المال ولا حق لأحد فيها إلا لمستحقيها من العامة والفقراء المسجلين لأجل ذلك.

5 أبو القاسم بن أحمد البلوي البرزلي، جامع مسائل الأحكام لما نزل من القضايا بالمفتين والحكام، تحقيق: محمد الحبيب الهيلة (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 2002ج 5، ص 463؛ لم يفسر «الأدب الفقهي» معنى عدم التعويض بالنسبة لـ«الهبة»، غير أنَّ الدراسات الأنثربولوجية بينت أن الواهب عندما يقوم بـ«التخلص» من جزء مما يملك لصالح الغير فإنه يعطي بالتحديد لا شيء. لمزيد من التوضيح يُنظر:

X..., “Réponse à Alain Caillé”, Revue du MAUSS, vol. 1, no. 27 (2006), p. 79-83, p. 82.

6 موريس غودولييه، لغز الهبة، ترجمة رضوان ظاظا (دمشق: دار المدى، 1998ص 61.

7 المرجع نفسه، ص 19.

8 ارتبط فعل «الهبة» بقدرة الفرد على إرضاء الموهوب له، وهذا ما نجد له صدى في ديانات المجتمعات القديمة سواء على مستوى العلاقات بين القوى الطبيعية أو الدينية إذ «التضحية تعني الوهب عن طريق تدمير ما يوهب»، يُنظر: غودولييه، ص 40؛ وبهذه الممارسة انتقل التقرب للقوى الطبيعية والدينية من أجل الحماية، مما خلق مفهوم التبعية المستند إلى مفهوم «القوة» المولد للغلبة. والهبة بهذه الصفة هي تنازل يتمظهر في تراتبية مخالفة لما هو معروف بين الأفراد لأن القوة القاهرة هي من ترى في القبول أو الرفض معيارا للرضى، يُنظر في هذا الصدد:

Alain Caillé, Anthropologie du don: Le tiers paradigme (Paris: Desclée de Brouwer, 2000), p. 145;

كما أن الهبة باعتبارها فعلا صادرا عن فرد أو مجموعة يتضمن قوة خفية تدفع للتنازل عن «ملكية» شيء ومنحه لغير الذات مما يؤكد وجود «قوة تدفع الذي يأخذ أن يمنح مقابل ذلك» بغض النظر عن تكافؤ مستواهما وتراتبيتهما، يُنظر:

Jacques Godbout, Ce qui circule entre nous : donner, recevoir, rendre (Paris : Le Seuil, 2007), p. 152.

9 في مناقشة الهبة نرى أنها «تنكفئ إلى العلاقات الشخصية وفيما هو أخلاقي» (ص 228غير أن عملية التبادل هاته تعطي للهبة قيمة رمزية لوجود علاقات اجتماعية خلف كل هذا، كما أن الهوية الاجتماعية لكل الأطراف تظل على المحك، غير أن في الهبة «تتمظهر هذه الهوية الاجتماعية في الأشياء المتبادلة» (ص 237)، يُنظر:

Jacques Godbout, “De la continuité du don”, Revue du MAUSS, vol. 1, no. 23 (2004), p. 224-241.

10 Georges Duby, Guerriers et paysans: VIe-XIe siècles. Premier essor de l’économie européenne (Paris: Gallimard, 1973), p. 63.

11 مارسيل موس، بحث في الهبة: شكل التبادل وعلته في المجتمعات القديمة، ترجمة المولودي الأحمر (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2011)، ص 60.

12 Sophie Chevalier, «De la marchandise au cadeau», Revue du MAUSS, vol. 2, no. 36 (2010), p. 197-210, p. 201.

13 موس، ص 59.

14 لا يمكن الحديث عن الهبة إلا في علاقتها بالأفراد وكذا وظيفتها المُؤداة وفق شروط يحددها المعتقد الديني والثقافي الضابط لنوعية وكيفية القيام بها. بالنسبة لمفهوم «الجمعنة» وعلاقته بالهبة، يُنظر:

Alain Caillé, ««Ce qu’on appelle si mal le don... ». Que le don est de l’ordre du don malgré tout», Revue du MAUSS, vol. 2, no. 30 (2007), p. 393-404, p. 401.

15 الدردير، ج 4، ص 139؛ كما يمكن مراجع دراسة تيستار المخصصة لنقد الهبة باعتبارها نشاطا تبادليا غير سلعي محددا في ذلك تعريفها وشروطها وفق ما هو متعارف عليه في هذا الحقل المعرفي:

Alain Testart, Critique du don. Étude sur la circulation non marchande (Paris: Syllepse, 2007), p. 22.

16 ابن حجر الهيثمي، تحفة المحتاج بشرح المنهاج، تحقيق: سيد بن محمد السناري (القاهرة: دار الحديث، 2016)، ج 2، ص 574.

17 اعتبارا لكون الوقف عملا خيريا بامتياز، فإن معالجتنا له لن يكون من وجهة نظر فقهية لبعدنا عن ذلك، وما نؤسس له من خلال هذه المقالة هو بحث فيما هو اقتصادي وله وقع على دورة التبادل السلعي داخل المجتمع.

18 محمد علي نصر الله، تطور نظام ملكية الأراضي في الإسلام (بيروت: دار الحداثة، 1982)، ص 49.

19 يُنظر في هذا ما كتبه الفقهاء من كل المذاهب وإن اختلفوا في بعض الأحكام لكنهم اتفقوا فيما يخص حكم الأرض الموات وأرض العشر وما أخذ عنوة وما صولح عليه: أبو يعلى محمد بن الحسين الفراء، الأحكام السلطانية، تحقيق: محمد حامد الفقي (بيروت: دار الكتب العلمية، 2000ص 162-165؛ كما أن أرض العنوة فيها حكم منع البيع والنهي عن شرائها لأن رقبتها غير مملوكة سواء لمن بيده من غير المسلمين أو للمسلمين الفاتحين لها. يُنظر في هذا: ابن آدم القرشي، كتاب الخراج، تحقيق: أحمد محمد شاكر (بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر، 1979ص 58.

20 لم تتطرق -حسب علمنا- لحد الآن أية دراسة للوقف في فترات الحروب وانتقال السلطة من أسرة لأخرى، مما جعل أمر إعادة التنقيب في تاريخ الوقف من الأمور الملحة لمعرفة دوره في تشكيل «نخبة» من المنتفعين من الأراضي والعقارات تنافس بها السلطة خاصة الزوايا ومتصوفيها في الفترة الوسيطية.

21 ابن أبي زرع الفاسي، الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس (الرباط: دار المنصور للطباعة والوراقة، 1972ص 59؛ ويعتبر الوقف على المساجد من الأمور المعروفة في تاريخ المغرب ودليلنا مسجد الأندلس ومسجد القرويين في هذا الشأن وبقاء ما تم وقفه من أملاك عليهما لحد الآن مسجلة في «الحوالة» المحددة للأملاك ونوعيتها. يُنظر: عبد الحق ابن المجدوب الحسني، الحوالات الحبوسية ودورها في حفظ الممتلكات الوقفية )فاس: منشورات المجلس العلمي الإقليمي بفاس، 2003ص 26-30.

22 محمد بن مرزوق التلمساني، المسند الصحيح الحسن في مآثر ومحاسن مولانا أبي الحسن، تحقيق: ماريا خيسوس بيغيرا (الجزائر: الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1981ص 311.

23 لسان الدين بن الخطيب السلماني، كتاب معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار، تحقيق: محمد كمال شبانة (القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، 2002ص 175.

24 Rosenberger Bernard, “Ahmed Khaneboubi, Les premiers sultans mérinides (1269-1331). Histoire politique et sociale [compte-rendu]”, Annales. Economies, sociétés, civilisations, 43ᵉ année, no. 6 (1988), p. 1396-1399, p. 1398;

يعتبر هذا المقال تقويما لعمل أحمد خنبوبي السلاطين المرينيون الأوائل الذي قُدِّم لنيل شهادة السلك الثالث، وقد أنهى روزانبرجي مقالته بحكم قوي مفاده: «أن الأطروحة وجب إعادة التفكير فيها بجدية وصياغتها من جديد قبل وضعها للطبع» (ص 1399) وهو ما دفعنا إلى عدم اعتمادها هنا.

25 الحديث عن الهبة يكون بين واهب وموهوب له، وهو ما تناولته كل الفتاوى الخاصة بهذا النوع من التنازل بين طرفين عن ملك ما، مع ما يقتضيه ذلك في نظر الفقه، لهذا السبب اعتبرنا أن الهبة وقعها لا يتعدى طرفين عكس الوقف المرتبط بالمؤسسات الخيرية.

26 اعتمد المرينيون في إدارة البلاد على دواوين كثيرة كما أنهم اعتمدوا على «إدارات محلية» كلفت بالسهر على تتبع جباية ما يتعلق بالوقف سميت «نظارة»، وهو بالمناسبة اسم لا يزال متداولا بالمغرب لحد الآن. يمكن مراجعة كتاب: محمد المنوني، ورقات عن الحضارة المغربية في عصر بني مرين، ط 3 (الرباط: منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية/ الدارالبيضاء: مطبعة النجاح الجديدة، 2000)، ص 126.

27 لم ينفجر الصراع بين المرينيين وباقي الشرفاء إلا بعد حوادث عديدة طالت الشرفاء سواء بمطالبتهم بالضرائب المفروضة على كل ساكنة فاس أو الصراع بين «الشرفاء» و«النخبة التاجرة» المشكلة من يهود القيسارية وغيرهم من الفاسيين الممتلكين لحق «الجلسة» بها. لمزيد من التوسع يُنظر مقدمة كتاب: محمد بن أحمد بن محمد ميارة، نصيحة المغترين وكفاية المضطرين في التفريق بين المسلمين بما لم يلزمه رب العالمين ولا أخبر به الصادق الأمين ولا ثبت عن الخلفاء المهديين، تحقيق: محمد الغرايب ومصطفى بنعلة (الرباط: مطبعة الرباط نت، 2013).

28 Maya Shatzmiller, “Les premiers Mérinides et le milieu religieux de Fès : l’introduction des Medersas”, Studia Islamica, no. 43 (1976), p. 109-118, p. 117.

29 Ibid, p. 118.

30 ذكر في كتب الجغرافيا أن مدينة فاس في هذه الفترة «ساكنتها مثقفة، مولعة بالدراسة وذكية (...) لا يمكن أن نجدهم في أي مدينة»، كما أكد ذلك ابن سعيد الغرناطي، يُنظر:

Edmond Fagnan (ed. & trans.), Extraits inédits relatifs au Maghreb (géographie et histoire), (Alger: Ancienne Maison Bastide-Jourdan, 1924), p. 13.

31 لكل عصبية ذاكرة خاصة بها تستمدها من قوتها أمام عصبية آفلة وهذا ما عبر عنه ميشيل سير بكون كل بداية لابد لها من تاريخ محايث لها لا يخلو من نزعة تأسيسية، وهو بذلك يُقعِّد للذاكرة الخاصة لكل مرحلة. لمزيد من الاطلاع يُنظر:

Michel Serres, Rome le livre de la fondation (Paris: Flammarion, 1983), p. 19.

32 Maya Shatzmiller, “Islam de campagne et Islam de ville. Le facteur religieux à l’avènement des Mérinides”, Studia Islamica, no. 51 (1980), p. 123-136, p. 131.

33 أكدت شاتزميلر على أن استقرار السلطة المرينية بفاس جعلها تفرض أسيادا جددا على «المجتمع الفاسي» مشكلة بذلك «أرستقراطية» جديدة جعلت تلك الموجودة قبلا في خلفية البنية الفوقية العامة للمجتمع، يُنظر:

Maya Shatzmiller, L’historiographie Mérinide: Ibn Khaldŭn et ses contemporains (Leiden: Brill, 1982), p. 145.

34 أبو العباس أحمد بن يحيى الونشريسي، المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب، تحقيق جماعة من الفقهاء (الرباط: منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية للمملكة المغربية/ بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1981) ج 7، ص 106، 127؛ لم ترد في النازلة المراد الحصول فيها على فتوى سوى قدرة «صاحب الحبس والناظر فيه أن ينتزع الأرض» وهي من المهام المنوطة أصلا بهذه الوظيفة، إلا أننا إذا ما رجعنا إلى ما جاء في سؤال يتعلق بغبن في كراء حبس، أن نائب القاضي هو في نفس الوقت ناظر للأحباس، مما يجعلنا نقف عند إمكانية حصول القاضي على نظارة الأحباس والمزاوجة بين المهمتين وهو ما أشرنا إليه من خلال تضخم المهام. وقد ورد نفس المعنى عند القاضي عياض وولده محمد، كون «الناظر» يهتم بكل ما يتعلق بالوقف، وإن كان ذلك متعلقا بأحباس «أهل الذمة». يُنظر: القاضي عياض وولده محمد، مذاهب الحكام في نوازل الأحكام، تحقيق: محمد بن شريفة، ط 2 (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1997ص 204.

35 يؤكد المالكية على أن الوقف كيفما كان نوعه لا يخرج ما هو موقوف كما أن الملكية تظل على الواقف وتبقى في ملكيته مع انعدام البيع لها أو رهنها ولا تورث عن الواقف، غير أن ما ذهبت إليه المؤلفات الفقهية يتعارض مع الواقع مما يجعل ما يجري بالمجتمع بعيد عما تضمنته المظان.

36 غودولييه، ص 19؛ في مقارنتنا للوهب بالوقف وإن كان هذا لا يستقيم فقهيا، فقد جعلنا من فعل التنازل عن الملكية لصالح أي كان هو تقعيد لعلاقة استبعاد الملكية من «الذات» لـ«الآخر» وفق منطق اقتصادي صرف دون أخذ الجانب الديني في هذا، لأن «الأدب الفقهي» المرتبط بالهبة والوقف فيه ما يفيد كل باحث.

37 تبدو هذه العملية واضحة بالنسبة للرأسمالية باعتبارها نمط إنتاج، لكن أن نقوم بقراءة كل ذلك من هذا المنظور لن يكون فيه إجحاف لاستنتاج أن كل العمليات التي تقتضي عملا منتجا هي في نهاية المطاف تريد الحصول على قيمة. لمزيد من التوسع حول هذه العمليات يمكن الرجوع إلى: كارل ماركس، رأس المال: عملية إنتاج رأس المال، ترجمة فالح عبد الجبار (بيروت: دار الفارابي، 2013) ج 1، ص 1127.

38 محمد فتحة، النوازل الفقهية والمجتمع: أبحاث في تاريخ الغرب الإسلامي (من القرن 6 إلى 9هـ/12-15م) (الدارالبيضاء: منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 1999ص 352؛ اعتبر هذا الحكم بالنسبة للأرض في ظل تعاقب الإمارة على السلطة تاريخيا من الأمور العادية، إذ ظلت الأرض بكل تصنيفاتها «ملكا» قابلا للتصرف لـ«أن لملكيات الأراضي في الإسلام علاقات وثيقة بالتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي رافقت انتشار الإسلام. (...) لا يمكن فهم بدايات نظام الأراضي والإقطاع ما لم تتبلور في الذهن صورة واضحة عن أوضاع الأراضي المفتوحة وأحكام ملكيتها»، يُنظر: نصر الله، ص 49.

39 يُنظر في هذا الشأن: العفيف الأخضر، «الرأسمالية البيروقراطية الراكدة» في: كارل ماركس وفريدريك إنجلز، البيان الشيوعي: في أول ترجمة غير مزورة، ترجمة العفيف الأخضر (بيروت: منشورات الجمل، 2015 ص 277- 323، ص 297.

40 المرجع نفسه، ص 297.

41 لا يمكن الحديث عن الأرض في الفترة الوسيطية بالمغرب وخاصة المعروفة بكونها وقفا بأنها «سلعة» لأنَّ شرط التداول هو أن «تُصبح الأرض نفسها ومنتجاتها الرئيسية بضائع. وينجم عن توظيف رساميل في الزراعة يفترض فيها أن تغل الربح الوسطي»، يُنظر: إرنست ماندل، النظرية الاقتصادية الماركسية، ترجمة جورج طرابيشي (بيروت: دار الحقيقة، 1972ج 1، ص 305؛ وهذا ما افتقدته أراضي الوقف، لأنها في مرحلة سابقة على الرأسمالية، يكون فيها «مكترو» هذه الأراضي في وضع غير قادر على تطوير الإنتاج المفضي إلى وجود سوق دائمة للتبادل قادرة على خلق «مناخ» سليم لتداول المال، يُنظر: ماندل، ج 1، ص 302-304.

42 غودولييه، ص 87.

43 العفيف الأخضر، ص 289.

44 محمد ابن غازي العثماني، الروض الهتون في أخبار مكناسة الزيتون، تحقيق: عبد الوهاب ابن منصور، ط 2 (الرباط: المطبعة الملكية، ط2، 1988ص 23-24.

45 الحسن بن محمد الوزان، وصف إفريقيا، ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر، ط 2 (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1983) ج 1، ص 228.

46 العفيف الأخضر، ص 297.

47 يعتبر بيع الوقف من الأمور التي لا تجوز في الفقه، وقد نوقشت فتاوى عدة في هذا الشأن وأجمع أغلبها على رد بيع الوقف إلى حالته السابقة تفاديا لما يمكن أن يشكله هذا النوع من التحايل على الأملاك الوقفية والقيام ببيعها. لمزيد من الاطلاع يمكن الرجوع إلى: البرزلي، ج 5، ص 377-379؛ الونشريسي، ج 7، ص 185. وقد أورد الونشريسي أن ابن رشد أجاز بيع ما اشتري من مال الأحباس بموافقة من القاضي، وهذا غير الأحباس ذاتها الواجب منع بيعها وهو المشهور من مذهب مالك وفقهائه.

48 عبد الرحمن بن خلدون، ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، تحقيق: خليل شحادة وسهيل زكار (بيروت: دار الفكر، 2000) ج 7، ص 325.

49 ابن خلدون، المرجع نفسه؛ نرى هنا أن المصادرة هي لصالح السلطان ولن يستفيد منها بيت المال، ونكون هنا أمام فعل عاد لسلطة اعتمدت القهر أسلوبا لكسر شوكة «المشرئبين» لتولي سلطة غير المحددة لهم وفق ما حدد لهم مسبقا. وقد لقي والد منديل نفس مصير ابنه، إذ «سخطه -يوسف بن يعقوب المريني- ونكبه سنة سبع وستين وستمائة وأقصاه من يومئذ وهلك في حال سخطته»، يُنظر: ابن خلدون، ج 7، ص 324.

50 ابن خلدون، ج 7، ص 466-467؛ أبو العباس أحمد بن خالد الناصري، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، تحقيق: جعفر الناصري ومحمد الناصري (الدارالبيضاء: دار الكتاب، 1955ج 3، ص 107؛ والمصدران معا يؤكدان على أن ما وقع بعد المصادرة سواء كان ذلك قتلا أو غيره يدخل ضمن العمليات التي اختصت بها السلطة لإسكات من يتعدى حدودا مرسومة وفق «أحكام سلطانية» في التسيير، الشيء الذي غَيَّب تاريخنا الوسيطي في مساراته العادية وأخضعه «لقدسية» الرواية التي لا تخدش وجه السلطة لكون «مثقفيها» هم كَتَبَتُها، وهو ما عبر عنه على سبيل المثال ابن أبي زرع في قوله «تأليف كتابٍ جامعٍ للطيف الأخبار وملح الآداب (...) إعلاء لكلمة دولة بني مرين وغرر أنوارها (...) فسهل الله تعالى ما أردته من ذلك ويسره بفضله وبركات مولانا أمير المؤمنين الظاهرة الباهرة»، يُنظر: علي بن أبي زرع، الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس (الرباط: دار المنصور للطباعة والوراقة، 1972ص 13-14؛ والأمر نفسه بالنسبة لابن خلدون في تاريخه الذي أتحف به خزانة «أبي فارس عبد العزيز»، يُنظر: ابن خلدون، ج 1، ص 12.

51 العفيف الأخضر، ص 289. اعتبرت الأرض دائما محورا للصراع، مما حدا بالفقهاء باختلاف مذاهبهم إلى تخصيص حيز هام من مؤلفاتهم يتناول الأرض في علاقتها بالملاك والسلطة وغيرها من مكونات المجتمع العربي الإسلامي، وقد أدت هذه العلاقة إلى وجود تصور مبني على عدم وجود ملكية مطلقة للأرض، وهذا ما جعل تصرف «الولاة» و«السلاطين» في أراضي الغير مسألة عادية، قد تصل لحد المصادرة، وهو فعل يخفي من ورائه إلحاقها بأراضيه وإن أُعْلِن عن أنها ستضم لبيت المال. بالنسبة لمناقشة إشكالية ملكية الأرض في الإسلام وعلاقة ذلك بالتصور الفقهي وتناولها باعتبارها مصدرا لإعادة إنتاج المجتمع وفق مناقشة للطروحات التي قَعَّدَت لذلك، يُنظر: سلامة كيلة، مقدمة عن ملكية الأرض فـي الإسلام (دمشق: دار المدى للطباعة والنشر، 2001).

52 لا يسع الباحث في هذا الباب إلا أن يقوم بعملية بحث مضن في كل ما هو موجود من المصادر وبين ثنايا ما هو متوفر من الأخبار في هذا الصدد، لكون ما لدينا من المصادر هي مما كتب من أجل تخليد السلطان.

53 تطرقت مدونات الفقه لهذا النوع من البيع الشائع في مدن الغرب الإسلامي وبواديه واعتبر الفقه المالكي أن «بيع المضغوط لا يلزمه وله استرجاعه»، يُنظر: الونشريسي، ج 6، ص 99-101؛ وهي نظير حالات عدة تناولتها الفتاوى من باب المفترض.

54 ابن مرزوق التلمساني، ص 230.

55 المرجع نفسه، ص 231؛ ومستغرقو الذمة عند الونشريسي من لا يستطيعون التصرف في أموالهم «لحقوق غيرهم إذ المال لغيرهم»، يُنظر: الونشريسي، ج 5، ص 536؛ ويمكن الرجوع إلى مسألة من كان مستغرق الذمة لبيت المال والحكم فيها، وهو شبيه في هذا لما أورده ابن مرزوق في مسنده وإن كان هناك تباعدا زمنيا في هذا الصدد، لكن الحدث يتكرر من زمن لآخر، والحدث هذا وقع بمراكش زمن المرابطين، وبالرغم من عدم وجود حالات أخرى من شاكلة ما تم الاستفتاء فيه إلا أن الحوادث المرتبطة بهذه النوعية من الأزمات التي يتعرض لها الأفراد بعد إفلاسهم بطريقة من الطرق تتكرر على طول مسارات الممارسات الاجتماعية بمغرب الفترة الوسيطية، ويصبح الشخص مستغرقا لذمته، يُنظر: ابن الحاج التجيبي القرطبي، نوازل ابن الحاج التجيبي، تحقيق: أحمد شعيب اليوسفي (تطوان: منشورات الجمعية المغربية للدراسات الأندلسية، 2018) ج 2، ص 351.

56 فيما يتعلق بعزل المكلف بالأحباس وجب أن يكون المدعاة لهذا «ما يوجب تأخيره وعزله من تقصيره أو تفريطه وتضييعه»، يُنظر في هذا: أبو سعيد بن لب الغرناطي، تقريب الأمل البعيد في نوازل الأستاذ أبي سعيد، تحقيق: حسين مختاري وهشام الرامي (بيروت: دار الكتب العلمية، 2004) ج 1، ص 146-147.

57 التلمساني، ص 233.

58 العفيف الأخضر، ص 287.

59 استخدمنا مفهوم «أزمة» للتعبير عما بدأ يسري في «الدولة من الهرم» بعد تعدد التمردات وانحصار الاستفادة من التجارة البعيدة المدى وبداية المنافسة الشرسة من تجار الضفة الشمالية للبحر المتوسط لتجار المغرب الأقصى، وقد أدى هذا إلى تسريع انهيار السلطة المرينية خاصة بعد قيام بني العمومة من الوطاسيين بالإطاحة بآخر سلطان مريني بفاس. عن معنى هذه الأزمة يُنظر: إيف لاكوست، العلامة ابن خلدون، ترجمة ميشال سليمان، ط 2 (بيروت: دار الفارابي، 2017ص 156-181.

60 يُنظر: حوالة أحباس تازا، المكتبة الوطنية للمملكة المغربية، الجزء 6، رقم 134، لوحة 188؛ جرتْ هذه العمليات في 15 محرم 952هـ، وهي سنة وقعة وادي درنة بتادلا وأسر الأمير أبي زكرياء الوطاسي ومهلكه كما جاء عند الناصري. ومعروف أن أوار الحرب لم ينطفئ إلا بدخول فاس من قِبَل السلطان محمد الشيخ السعدي ونهاية دولة بني وطاس. يُنظر بالنسبة لهده الحوادث: الناصري، ج 4، ص 156؛ ويبدو أن وقع هذه الحوادث هو ما دفع أمراء بني وطاس إلى بيع أراضي المخزن وتوقيف بعضها أملا في استردادها فيما بعد.

61 عبد العزيز الدوري، أوراق في التاريخ والحضارة: أوراق في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 2007ج 2، ص 252.