سؤال التنوير وحدوده في الفكر الإصلاحيّ النهضوي: قراءة لمشروع محمد الحدّاد

يونس الأحمدي*

doi:10.17879/mjiphs-2023-4609

ملخص

تسعى هذه الورقة إلى تقديم مساهمة فكرية تُسلط الضوء على إشكاليات مفهوم التنوير وسردياته في الإسلام الحديث، من خلال نافذة نقدية تتمثل في أعمال ومقاربات المفكر التونسي محمد الحدّاد. يشتغل الحدّاد في مجال الإسلاميات وعلم مقارنة الأديان، ويشغل منصب أستاذ كرسي اليونسكو للدراسات الدينيّة المقارنة بجامعة منوبة. عكف على مدى ربع قرن على دراسة قضايا التنوير والإصلاح الدينيّ في عصر النهضة وفق منهجية نقدية وتحليلية تزاوج بين مطلب النقد التاريخيّ والتحقيق الفيلولوجي لنصوص نهضوية هامة1، وبين التحليل المفهومي والتأويل الفلسفي المركب لمشكلة الإصلاح الدينيّ في التجربة الإسلامية من زاوية مقاربة معرفية تكفّ عن تقديمه بوصفه حدثا تاريخيّا أقنوميا، وتتجاوز الاحتفاء بشخصياته وأعلامه، لتتجه صوب دراسة بنية الفكر الإصلاحيّ ومساءلة صلاحيّته المعرفية من خلال تحليل آليات إنتاج الخطاب واشتغاله داخل المتن الإصلاحيّ وفحص وظائفه وحدوده؛ بل وتطمح إلى الارتقاء بمفهوم الإصلاح الدينيّ إلى منزلة الظاهرة الثقافية ذات الأبعاد الأنثروبولوجية العامة والمشتركة بين مختلف الأديان الكتابية2.

كلمات مفتاحية: التنوير؛ الإصلاح؛ النهضة؛ محمد الحدّاد؛ محمد عبده

أولا. الفكر الإصلاحيّ النهضوي:

ثورية موعودة وأرثوذكسيّة مقاوِمة

تنخرط أبحاث محمد الحدّاد ضمن توجه معرفي عَنِي بالنظر لمشكلة الإصلاح الدينيّ في الإسلام من زاوية كانطية؛ وهو التوجه الذي يمكن رصد انطلاقته مع عبد الله العروي منذ كتابه الإيديولوجيا العربية المعاصرة (1967)3 الذي خصه لدراسة النظام الفكري الذي يحكم مختلف الخطابات العربية منذ عصر الإصلاح والنهضة، معتمدًا في ذلك على نمذجة للتيارات الثقافية في المجتمع العربي (نموذج الشيخ/ نموذج السياسيّ/ نموذج التقني) وليخرج من ذلك باستنتاج حاسم يندرج بموجبه الفكر العربي الحديث، في تعبيراته الثلاث، في منزلة الإيديولوجيا. أما في كتابه مفهوم العقل4، فقد بيّن حدود العقل ومفارقاته عند مفكري الإسلام وبخاصة عند محمد عبده؛ وهي محدودية تجد تفسيرها لدى العروي في ما سماه «البنية الكلامية» التي تشرط عمل العقل الإصلاحيّ. وغير بعيد عن فكرة محدودية العقل الإصلاحيّ، أشار فهمي جدعان5 إلى ما سماه بالحدود الكانطية للإصلاح كما مثّلها عبده عندما أقام مشروعه على أساس ثيولوجيا التوحيد في صورته الكلاسيكية مع الكلام القديم. من المنطلق ذاته، نقرأ لهشام شرابي، وهو يوجه سهام نقده لحركة الإصلاح التي قادها الأفغاني وعبده، أنها «لم تضع العقيدة موضع تساؤل»6، واختزلتْ مشروع الإصلاح في أهداف دفاعية تكافح «لإعادة تأسيس الحقيقة الإسلامية وتقويمها من دون تعريضها للنقد»7.

لقد اتخذ محمد الحدّاد، أيضا، من تجربة محمد عبده مدخلًا للقيام بحفريات نقدية لبنيات العقل الإصلاحيّ العربي ووظائفه ومسالكه التأويلية، وغايتُه في ذلك إعادة قراءة أسباب فشل التجربة الإصلاحيّة في ارتباطها بالطابع الثيولوجي للقاعدة المعرفية التي قامت عليها؛ ومنه إلى إعادة تأسيس مقولة الإصلاح الدينيّ من خلال تطوير مشروع عبده، وذلك بنقله «من نقد لاهوتي للاّهوت إلى نقده إبستيمولوجيًا»8، مسترشدًا في ذلك بالمكتسبات الجديدة لمناهج العلوم الإنسانية خاصة منها آليات تحليل الخطاب.

تضعنا عبارة «النقد اللاهوتي للاّهوت» أعلاه، في صلب أطروحة الحدّاد حين ذهب إلى أن محاولة عبده تتحدد بوصفها مشروع «لاهوت نقدي ‘مسْكوني’»9. فهو مشروع «نقدي» من حيث أنه حاول «نقل العقائد الدينيّة من ميدان التقليد إلى ميدان الاجتهاد»10 وانفتح على أفكار جديدة «ليس باليسير على العقل اللاهوتي إدراجها في نسقه»11، فاستطاع من خلالها التخفيف من ضغط التراث والتقليد وتَمكن من قلب قاعدة العقيدة وسلطتها التقليديّة وتحديدا كما تجسدها عقيدة النجاة والخلاص.

وتكمن جدة مقاربة الحدّاد في النصوص التي سَلَك منها لتأسيس أطروحته. فخلافًا للمعتاد لدى الدارسين في تركيزهم على الكتابات المتأخرة الأكثر شهرة لعبده وخاصة منها نص رسالة التوحيد والذي يُتخذ عادة كرائز تمثيليّ معياريّ لفكر عبده، فإن الحدّاد وجّه عنايته إلى نصوص وآثار كلامية أخرى ظلَّتْ مُهملة ومنسيّة في الغالبية العظمى من الدراسات. ويتعلق الأمر، ضمن ما يسميه الحدّاد بـ«الآثار المغمورة» عند عبده، بنص الحاشية، وهو عبارة عن تعليقات كتبها محمد عبده على كتاب شرح العقائد العضدية لجلال الدين الدواني (ت. ٩١٨هـ/ ١٥١٢م). فمقارنة مع نص رسالة التوحيد، لا يتردد الحدّاد في اعتبار نص الحاشية «أهم كتابات عبده الدينيّة»12، على الرغم من ارتباطه في ذهن الباحثين بكتابات عبده في مرحلة الشباب؛ بل يُفاجئنا الحدّاد بقوله إن «قيمته تفوق عندنا قيمة رسالة التوحيد، وإن كان أقل شهرة منها»13. من المنتظر إذن أن تبرز أمامنا أسئلة عدة: ما طبيعة القيمة التي يمتلكها نص الحاشية ومن أين يستمدها؟ وما الدلالة التي يُوفرها الترتيب المعكوس الذي اعتمده بالانتقال من نص الحاشية أولا إلى نص رسالة التوحيد في إطار قراءته لمشروع الإصلاح لدى عبده وفهم أبعاده التي يتقاطع ضمنها ما هو نقدي وما هو لاهوتي كلامي؟

يكتسي نص الحاشية، من المنظور الذي اختاره الباحث، قيمة بالغة الأهمية في إدراك حركية ومسار المشروع الإصلاحيّ لعبده وفهم مدى تقدمه أو تراجعه؛ ومردّ ذلك، من جهة، إلى ما تَضمنه من كثافة معرفية وثراء في مضامينه وتعدد في مرجعياته فضلا عن تميز مصطلحاته بطابع فلسفي واضح14؛ لكن ما هو أهم من ذلك، هو المقاصد الإصلاحيّة ذات النزعة النقدية اللافتة التي ينطوي عليها، التي استشفها الباحث من مُناقشة عبده لإحدى مسائل هذا النص وقيامه بتأويلها على نحو مختلف للسائد، وهي مسألة الفرقة الناجية. وتتلخص معالم الطرح النقدي الذي اجترحه عبده هنا، حسب الحدّاد، في أربع أفكار ثورية:

❊ التحديد الجديد للأرثوذكسيّة وزعزعة نظامها القديم الذي يربط بداهة بين الحقيقة والمذهب السائد وذلك «بتحويل الإيمان من انتماء جمعي (الفرقة) إلى موقف فردي ومن طلب النجاة إلى طلب الحقيقة بالاستدلال»15.

❊ الفصل بين الدين والفكر الدينيّ، بمعنى الفصل بين ما يتصل بدائرة الإيمان وما يتصل بدائرة الاستدلال، فهذه الأخيرة مجال اختلاف ومحل نظر عقلي جائز وواسع في حين تظل دائرة الإيمان مرتبطة بالحد الأدنى من المسائل التي تتفق حولها كل الفرق الاعتقادية.

❊ تضييق سلطة النص وتقييدها بسلطة التأويل العقلي طالما أن التحقيق في دلالات الألفاظ لا يفيد اليقين.

❊ إعادة تأسيس علم الكلام على منهج غير الذي يقوم عليه علم الكلام الإسلامي التقليديّ بالتخلص من الموروث في مسالك النظر والتفريق، والارتكاز بدل ذلك على ثلاث مبادئ كبرى وهي الإلهيات والنبوات والمعاد، بوصفها نواة تسامح ومصالحة دينيّة.

ينتهي الحدّاد إلى أنَّ مشروع عبده يُعدّ محاولة حقيقية وجادة لإعادة تشكيل الخطاب الدينيّ من منظور نقدي قائم على «جهد حقيقي في النقد والتمحيص بين الأطروحات التراثية واستدلالاتها»16. ويتبوأ نص الحاشية مكانته بوصفه «أهم بيان تجديدي لعلم الكلام الإسلامي بل وللفكر الدينيّ الإسلامي في العصر الحديث»17.

ولكي لا يتم فهم هذا الاستنتاج كحكم قيمي، كان لزاما على الحدّاد العودة إلى رسالة التوحيد لإعادة قراءتها في ضوء الوضع الجديد الذي فرضه الترتيب المعكوس، ومقارنتها بنص الحاشية، وهو ما سيمكّنه من إعادة تركيب مسار المشروع الإصلاحيّ لعبده ككل. ففي مقابل ما تميز به نص الحاشية من ثراء معرفي فلسفي وتنوع في المرجعيات وحيوية خطابية، يسجل الحدّاد، من خلال تحليل مستفيض ومقارِن للفوارق بين نصي الحاشية ورسالة التوحيد من حيث بنية الخطاب وآليات تشكله ومستويات توظيفه18، أن الرسالة -التي دأب الدارسون على ربطها بـ«مرحلة النضج» عند عبده- تراجعت نحو خطاب تمجيدي وتبسيط مضموني يعبّر عن تواضع في طموح عبده ويؤشر على تخليه عن مشروع المرحلة السابقة في نقد الموروث الكلامي والفلسفي والصوفي19. ويرى الحدّاد أنّ خلف بيداغوجيا التبسيط التي ميزت مضمون الرسالة مقصد إيديولوجيّ يتمثل في «تقديم الإسلام في صورة نسق أحادي موحد»20. وهذا ما وضع عبده أمام نتيجة هي نقيض الغاية التي أراد، وذلك أنه «بمحاولة إقامة إسلام موحَّد يستخرجه بين أطروحات متباينة، استعاد من حيث لا يدري جزءًا كبيرًا من الأطروحات السائدة، لاسيما وأن الضرورات السياسيّة جعلته يتعجل نتائج ‘التوحيد’ قبل أن يمارس فعلا مشروع ‘النقد’»21.

الحاصل إذن، إن «مشروع اللاهوت النقدي لم يواصل طريقه لأنه حمل في ذاته بذرات سقوطه من حيث أنه أضاف إلى عوائق النقد القديمة عوائق جديدة»22، مثّلها ضغط الهزائم السياسيّة وواقع التمزق الذي وجدَ الخطابُ الإصلاحيّ نفسه مُجبرًا أمامها على الاستجابة لضروراته السياسيّة المُلحة والتي دفعته إلى «التخلي شيئا فشيئا عن صرامة المنطق الكلاسيكي وروحانية التصوف لتغرقه في الإيديولوجيا النضالية»23.

لا يرتبط تفسير هذا المآل بتناقضٍ أو اضطراب ما في كتابات عبده؛ وهي التي لا تفصل بينها إلا سنوات قليلة، أو بالظروف الاجتماعيّة والتاريخيّة فحسب، بل بدلالة جديدة تستجيب لمنطلق أطروحة الحدّاد عن طبيعة العقل اللاهوتي، وتتعلق بتحديد الثابت والمتغير فيه؛ وهو ما بينه الحدّاد بالاستناد إلى مفهوم الأرثوذكسيّة لدى جون بيير دوكنشي Jean Pierre Deconchy24، مستعيرًا تمييزه لمستوياتها الثلاث25:

❊ الكائن الأرثوذكسيّ: نقول عن كائن إنه أرثوذكسيّ عندما يقبل أو يطلب أن يخضع فكره ولغته وسلوكه لتوجيه المجموعة الإيديولوجيّة التي ينتمي إليها، وبصفة خاصة عبر آليات التسلط التي تمتلكها هذه المجموعة.

❊ المجموعة الأرثوذكسيّة: نقول عن مجموعة إنها أرثوذكسيّة عندما يتوافر فعلا هذا التوجيه فيها، وعندما تكون تبريرات وسائله كما مبادئه جزءًا ملتحما بالمذهب الذي تعتنقه المجموعة.

❊ النسق الأرثوذكسيّ: نُطلق تسمية نسق أرثوذكسيّ على مجموع الإجراءات الاجتماعيّة والنفسية-الاجتماعيّة التي تنظم سلوكات الكائن الأرثوذكسيّ وسط المجموعة الأرثوذكسيّة.

بتطبيقه لهذا التمييز على حالة عبده، يخلص الحدّاد إلى نتيجة مهمة، حيث يقول: «محمد عبده لم يكن سلفيا. هذه هي الفكرة التي نخالف بها مجموع الكتابات التي تناولت نفس الموضوع»26؛ ورغم ذلك، يُشير الحدّاد إلى أن عبده «وإن تمكن من التخلص من الوجهين الأول والثاني للأرثوذكسيّة (...) فإنه لم يكن قادرا على التخلص من الوجه الثالث»27. بمعنى آخر، لئن تخلص عبده من الأرثوذكسيّة بما هي نسق تنظيمي، وإذا كان الوجهان الأول والثاني يشيران إلى المتغير في علاقة عبده بالأرثوذكسيّة -فهو كائن غير أرثوذكسيّ وغير ملتحم بمجموعة أرثوذكسيّة-؛ فإن هذا لم يمنع أبدا من استبطان دائم لنظام الأرثوذكسيّة ونسقها المعرفي -وليس التنظيمي- وتفعيل لا شعوري لإجراءاتها وتقنياتها الفكرية والنفسية مع توزيعها بشكل جديد.

على أن كلمة «سلفي» تحتمل ثلاث معان وضعها الحدّاد كالآتي28: المعنى الأول: يقابل معنى الحداثة، فينعت بالسلفية الفكر الذي يجعل منطلقاته وآلياته ومفاهيمه المنتوج القديم السائد الممثل للماضي العربي الإسلامي؛ المعنى الثاني: الرجوع إلى فترة نموذجية من ذلك الماضي، غالبا ما تكون الفترة الأولى -صدر الإسلام-، ترسم نقية خالصة من الشوائب، باعتبارها نموذجًا مثاليًّا يُحتذى به في البعث الحضاري الجديد والنهضتين الفكرية والسياسيّة المنشودة؛ المعنى الثالث: الانتماء إلى التيار الذي أرسى معالمه النظرية والعملية تقي الدين بن تيمية في عصر اعتبر مشابها لعصر النهضة.

حسب الحدّاد، لم يكن عبده سلفيًّا بالمعنى الأول، بالنظر إلى أنه تفاعل مع نشأة العلم الحديث وقَبِل قيمه وشهد أفول الكنيسة الكاثوليكية وانهيارها، ومن تخوفه على مصير مماثل للإسلام لم ينخرط في الدفاع عن الإسلام دفاع الكنيسة الكاثوليكية على عقائدها، «بل مال إلى سلوك مسلك البروتستانت وإعادة تشكيل الفكر الدينيّ في صياغة لا تصدم العلم المنتصر»29؛ ولم يكن سلفيا بالمعنى الثاني لأنه لم يختزل «صدر الإسلام» في مرجعية نصية صلبة، بل وسع دلالته وشرعيته ليشمل أكبر عدد من التيارات والمذاهب لتمثل وجها من صدر الإسلام و«معتقدات السلف»، وكان لهذا السبب قليل اللجوء إلى الأحاديث النبوية؛ أما اقتران عبده بالمعنى الثالث للسلفية، فإنما يرجع إلى إقحام صورة عبده وإعادة تشكيلها لتتلاءم مع مناخ انتشار المذهب الوهابي في الوسط الدينيّ الإصلاحيّ وما رافق ذلك من انهيار علاقات التفاعل الايجابي التي كانت قائمة في عصره بين رواد الإصلاح الدينيّ ورواد التحديث الليبرالي. لقد صار عبده «سلفيا»، بالمعنى الثالث، بفعل ظاهرة فكرية وسياسيّة أكثر مما كان ذلك بفعل النصوص التي أنتجها، وهي ظاهرة ابتدأت مع رشيد رضا الذي جرى على يديه كتابة ما اعتُبر التاريخ الرسمي لعبده تعرضت من جرائها نصوص الرجل إلى التلاعب والتشويه، وتواصلت الظاهرة نفسها مع المستشرقين.

ثانيا. الاجتهاد الإصلاحيّ: وظائفه وحدوده

إن «لا-سلفية» عبده لم تمض به على الرغم من ذلك إلى «صياغة مشروع حقيقي لتجديد الفكر الدينيّ بما تفرضه المعطيات الجديدة»30، فما قام به «لا يعدو أن يكون محاولة للاستفادة من كل الإمكانات التي يسمح بها النظام التأويلي القديم قصد استئناس الواقع المعاصر»31. ومعنى ذلك أن تطور ممارسة الاجتهاد وصورته عند مصلحي عصر النهضة، مقارنة بعصر الفقهاء زمن التدوين، لم يفض بهم إلى إنشاء نظام معرفيّ وتأويليّ جديد للمعرفة الدينيّة. لقد حافظ الاجتهاد في الخطاب الإصلاحيّ على نفس آليات الاجتهاد القديم، فقط مع توزيع جديد لبنياته وإسناد وظائف جديدة له.

يميز الحدّاد بين «الاجتهاد القديم» الذي عرفه عصر المذاهب الفقهية وبين «الاجتهاد الحديث» الذي عرفه عصر النهضة والإصلاح، مبرزًا التحول الدلالي الذي عرفه الاجتهاد الحديث كانزياح عن مقولة الاجتهاد الفقهي بالمعنى المحدد لها في التراث القديم، وكمكسب مكَّن من تقليص سيطرة الخطاب الفقهي التقليديّ وفسح المجال لنشأة اجتهاد إصلاحيّ غير إقصائي. لكن هذا التحول لم يَرَ فيه الحدّاد خروجًا عن النظام المعرفيّ القروسطويّ من حيث أنه حافظ على نفس شروط الاجتهاد كما وضعها القدامى؛ بمعنى أنَّ الانزياح الذي حدث يقتصر على مُستندات التبرير ووظائف التأويل ودوافعه الأصلية ولا يشمل المبادئ والآليات التي أسّسها عصر التدوين.

لم تتشكل مقولة الاجتهاد في عصر التدوين كتعامل فردي مع النص وبغاية إنتاج الرأي، بل كتعامل مقنَّن مع النص في سياق إيجاد حل لاختلاف الرأي واختلاف الروايات واختلاف الاختصاصات واختلاف المذاهب32. فلا يتحدد الاجتهاد، من هذا المنظور، كـ«وسيلة نظر» بقدر ما شكّل وسيلة «تقنين للنظر وإخضاعِ الآراء المتباينة إلى إطار جامع يرسم لها حدودًا لا تتجاوزها»33. وما جعله كذلك، أي رَسْمًا للحدود وتسييجا للآراء هو، فضلًا عن ارتباطه بحاجات وغايات عمليّة، السعي إلى تحقيق وحدة مُجردة جامعة عوضًا عن التعدد الفعلي للمذاهب والآراء34، وهو التوجه الذي تمت ترجمته بالفعل في الشروط الخمسة العامة والتي تحددت باعتبارها أصولا مؤسِّسة للاجتهاد، فاتخذت شكل منطق داخلي صارم، يرصده الحدّاد في بُعدين مُتلاحمين، أحدهما يتنزَّل كخطاب مؤسِّس وتمثله أصول الفقه والثاني كخطاب مؤسَّس تمثله أحكام المذاهب35. ويستدل الحدّاد على عدم تبلور الاجتهاد كتعامل فردي من خلال قراءة جديدة لأصول الفقه الخمسة، لا باعتبارها ضوابط معرفية صرفة لإنتاج الرأي الشرعي البحت، بل كآليات ضبط وقياس الانتماء للجماعتين: العلمية والمِلّيّة على حد سواء. إذ أن الشرعية العلمية للاجتهاد، أي الاكتساب النظري لتقنياته، تعوزها شرعية أخرى هي شرعية الانتماء العملي والرمزي إلى محيط أول هو متخيل الإسلام ثم إلى محيط ثان هو محيط الجماعة المذهبية وأخرى إقليمية ثالثة.

وعليه، فشرطَيْ العلم بـ«الكتاب» والعلم بـ«السنة» لا يُعبِّران عن بنية معرفية خالصة بل يعكسان بنية للاجتماع الدينيّ، يسميها الحدّاد «بنية التماهي» Structure d’identification، أما الإجماع فيتحدد عمله ضمن بنية أخرى هي «بنية الإقصاء» Structure d’exclusion. فـ«إذا كان العلم بالكتاب والسنة يحدد دائرة الانتماء فإن الإجماع يشتغل كصمام أمان يضمن أن يستجيب توظيف الكتاب والسنة للتوجهات السائدة. فكل فهم شاذ عن الفهم الجمعي يكون مصيره الإقصاء لخروجه عن الإجماع ولو كان أكثر قربا لمنطوق النص»36. أما الشرطان الرابع والخامس، وهما على التوالي القياس والعلم باللغة، فيحددان بنية ثالثة هي «بنية الإدماج» Structure d’intégration، وهي «تهدف إلى إدماج معارف جديدة دون الإضرار بالبناء الذهني القائم»37 عبر عمليات مراقبة وتطويع تقني مزدوجة تشمل الإمكانات الدلالية التي يتيحها النص المؤسِّس نفسه قصد إحكامها بما ينسجم والمباحث الفقهية، والمكتسبات والمعارف الجديدة من خلال «انتزاعها من سياقها الأصلي وتحويلها إلى فضاء التماهي»38؛ وهنا تتحول آليات التماهي والإقصاء من المستوى الشعوري الإرادي إلى مستوى لا شعوري مستبطن39.

إذا كانت هذه هي الصورة التي استقرت عليها مقولة الاجتهاد في التراث الفقهي القديم، فإن انبعاث مطلب التجديد والاجتهاد مع الأدبيات النهضوية وفي ظروف تاريخيّة وثقافية مختلفة عن عصر التدوين لم تفض، حسب الحدّاد، إلى تحول جذري عنها بالنظر الى استمرار اشتغال البنيات الثلاث نفسها، مع فارق أنها فقدت انسجامها ووظائفها القديمة.

فعلى مستوى بنية الانتماء، اتجه الاجتهاد في الخطاب الإصلاحيّ نحو فك الارتباط بين الجماعة المذهبية ومتخيَّل الانتماء الجمعي، فتحول محدِّد التماهي من المذهب الفقهي، المحسوس والواقعي، إلى وحدة مجردة تمثلها الشريعة40؛ كما تَحول محدد الإقصاء ومجاله من الجماعة المذهبية إلى الآخر، الغرب المادي، وهنا يشتغل الاجتهاد كصمام أمان ضد هذا الآخر الغربي؛ أما الإدماج فقد أصبحت آلياته القديمة عاجزة عن الاشتغال، فبدل تطويع الجديد وتكييفه لينسجم مع حقل التماهي، انقلب إلى اقتباس الأفكار والمكتسبات الجديدة لتصبح موجهة نحو غايات نضالية فقدت الكثير من مستنداتها التراثية. ففي حالة الأفغاني مثلا، تحولت مقولة الاجتهاد إلى «مقولة سلبية، لم تشغله العودة إلى المدونات الفقهية لأنه لا يمثل دولة تبحث عن الشرعية الدينيّة، بل إن الشرعية الدينيّة أصبحت في ذهنه شرعية نضالية بحتة»41. بمعنى أن الاجتهاد تحول في البرنامج النضالي للأفغاني إلى أداة لنسف البنى المذهبية والسياسيّة القائمة لأنها لم تكن حسب الأفغاني مهيأة لمشروع تأسيس الوحدة القوميّة الإسلامية، فلم يعد للاجتهاد بذلك مفهومه الإيجابي. أما عند عبده فقد اكتسب الاجتهاد صورة ثورية جديدة؛ فخلافا لتوجه الأفغاني في تحطيم المذهبيات والمدونات الفقهية القائمة، ذهب عبده إلى فكرة تثويرها من الداخل، فيصبح الاجتهاد هنا هو تلك العملية التي يتم بموجبها التحول «من مجال الأحكام الفقهية إلى محاولة إعادة ترتيب الوظائف التي يعهد بها إلى الدين»42، بحيث يكف هذا الأخير عن أن يكون منظومة من الأحكام الفقهية التفصيلية ليتحول إلى «منظومة من المبادئ الأخلاقية تكون مقبولة عقلا ودينا ومواكبة لروح العصر»43.

مع ذلك، يُحذِّر الحدّاد من الانسياق وراء تحويل «اجتهادية» فكر الإصلاح إلى سردية مُطلقة، بالنظر إلى أنَّ الخطوات التي حقّقها الاجتهاد في مُختلف تجليّات الخطاب الإصلاحيّ، بدءًا من الاجتهاد التحديثي وانتهاءً بالاجتهاد المقاصديّ، لم تخرج به عن مُسلمات تصور «العصر الوسيط» لنظام المعرفة، ولم يُفضِ إلى إنتاج وضعٍ تأويليٍّ جديد؛ يقول: «إنَّ مفهوم الاجتهاد لم يتطور تطورًا جذريًّا منذ الصورة التي استقر عليها في عصر التدوين»44. ومعنى هذا أنَّ الاجتهاد في الخطاب الإصلاحيّ حافظ على نفس آليات الاجتهاد القديم -بالمعنى المحدد له في التراث-، فقط مع توزيع جديد لبنياته وإسناد وظائف جديدة له؛ لكن مُسلَّماته ومُقدماته ظلّتْ ثابتةً وإنْ اختلفت المُستندات والتبريرات. من هنا محدوديته التي حاول تجاوزها بتفعيل آليات الإدماج أكثر من غيرها، خصوصًا مع ما عرفه الاجتهاد مع رشيد رضا من ارتداد نحو مُمارسة توفيقيّة انتقائيّة تقوم على «التلاعب بالقديم لإخراجه في حُلّة لا تصدم المشاعر المعاصرة»45. وبذلك، يُمكن القول إنَّ الاجتهاد الإصلاحيّ لم يسمح بتبلور القطيعة داخل العقل اللاهوتيّ مع النظام المعرفيّ في العصر الوسيط طالما أن آليات التأويل الإدماجيّ ظلّتْ فاعلة ومقاوِمة، ومادام أنه في كل مرة يبدي نوعا من «الاستعداد الصادق للتعامل مع كل جديد واحتضانه في المخزون التأويلي السائد»46.

ثالثا. نحو نظرية عامة للإصلاح الدينيّ

في جوابه عن سؤال فشل مشروع الإصلاح الدينيّ في الإسلام خلافًا لنجاحه في المسيحيّة، يُجمل الحدّاد عوائق التجربة الإصلاحيّة لعبده في عدم تحول الفكر الدينيّ إلى نشاط تأملي، بالنظر إلى أنه ظل يعمل بمنطق العقل العمليّ المهووس بالنتيجة السريعة لأنّ الضغوط التاريخيّة والاجتماعيّة لم تسمح بغير ذلك47. فبحكم الهاجس العمليّ، ما كان للخطاب الإصلاحيّ الخروج من لاهوته القديم إلا ليستعيض عنه بلاهوت جديد يطلق عليه الحدّاد «لاهوت الهوية»48. من هنا تحولت فكرة الإصلاح إلى عقيدة نضاليّة49 اختلّ معها ترتيب العلاقة بين الحاجات الدينيّة الرمزيّة والحاجات العمليّة، الاجتماعيّة والسياسيّة، لاسيما بعد أن اِلتحم المطلب الإصلاحيّ مع فكرة القوميّة، مفضيًا بذلك إلى نموذج نضاليّ يدعوه الحدّاد بـ «القومسلاميّة»50.

لم تسمح فكرة القوميّة الإسلامية، وفقًا للحدّاد، بتطور الإصلاح الدينيّ تطورًا طبيعيًّا في اتجاه إعادة تحليل الفكر الدينيّ وتأويله عميقًا. فمشروع الإصلاح منذ الأفغانيّ قام أساسًا على «تحويل الدين إلى قوميّة واعتماده وسيلة في تثوير الأوضاع في المُجتمعات ذات الأغلبيّة المُسلمة»51، فراهن الخطاب الإصلاحيّ على «توظيف الدين ضد القوى التقليديّة (المؤسسات الدينيّة والأنظمة السياسيّة) وضد الاستعمار وتوظيفه أيضا ليكون دافعًا لاقتباس الحضارة الجديدة منظورًا إليها من زاوية أنّها تُوفر لمن يقتبسها وسائل النهوض والقوة»52. أما مع محمد عبده، فإن خاتمة تجربته ستشهد نوعًا من التحول من الانفتاح إلى التوجّس؛ تحولٌ يؤشر له، حسب الحدّاد، صدور كتاب العلم والمدنية بين الإسلام والنصرانية (١٩٠٣)، الذي يحمل مواصفات الكتابة النضاليّة ويُجسِّد بذلك أحد تجليات الوعي «القومسلاميّ».

فإذا كان موقفه الإصلاحيّ قد تشكّل في البدء كثورة ضد أرثوذكسيّة الموقف الدينيّ التقليديّ مثلما مرّ معنا سابقًا، فإنَّ سياق المنافسة التي فرضها التحدي الأوروبي دفعته إلى الارتداد نحو أطروحة التفوق الإسلامي. من هنا اتخذ الخطاب الإصلاحيّ لعبده في كتاب العلم والمدنية استراتيجيّةً جداليّة متعاليّة تقوم على الخلط بين واقع الحال وحكم الحال53، ويغلب عليها أسلوب المنافحة والسجال والتمجيد والمعاندة اعتمادًا على آليات خطابيّة أبرزها آليات الانتقاء في الاستدلال وتوظيف معطيات التراث وتطويعها قصد التبرير والعناد أو الإسكات، فضلًا عن اعتماد آلية التأويل الإدماجي الذي اضطلع هنا بوظيفة جديدة هي الاستحواذ54. لذلك اعتبر الحدّاد أن الكتاب يمثل محاولة محدودة القيمة من الناحية الفكرية، لكنه أكثر أهمية من حيث كونه تعبيرًا واستجابةً لرغبات إيديولوجيّة اجتماعيّة55. بالمحصلة، «لقد ضحى عبده بالحقيقة التاريخيّة من أجل الحقيقة الاجتماعيّة (...) توقف في منتصف الطريق حيث كان المطلوب أن يُثْبتَ إيجابيًّا لا سلبًا، برهانًا لا جدلًا، قابليّة الفكر الدينيّ الإسلاميّ أن ينفتح على الحداثة. لكن الخطاب الإصلاحيّ تجنّب في الغالب أن يفلسف القضايا وأخجله خلع دثار الحكمة ليعيش لحظة التوتر الدرامية التي تميز التحولات الكبرى في الوعي»56.

هكذا إذن كان الارتداد نحو العقيدة النضالية تراجعًا عن المقصد الإصلاحيّ النقدي الذي حمله المشروع في صيغته الأولى لصالح مهمة استعجاليّة تحكمها الرغبة في اختصار الطريق، بحيث «تبدو القضية مجرد إجراءات محدودة لو طُبِّقتْ لعادت الأمور إلى نصابها»57. وهذه النزعة هي إحدى خصائص التصور «القومسلاميّ» الذي بلغ أَوْجَهُ مع رشيد رضا، مُشكِّلًا بذلك سياجًا تأويليًّا، حصر المهمة الإصلاحيّة في كونها خلاصًا فوريًّا ينهض به «الراعي النائم» بعد استيقاظه، ليُعيد الأمور إلى ما قبل «الطوفان» كما يقول الحدّاد58.

اختزال الإصلاح الدينيّ في فاعليّة نضاليّة وتوقفه كفاعلية فكريّة تأمليّة نقديّة، هما إذن العنصران اللذان يلخِّصان الصورة التي استقر عليها مسار محمد عبده في القرن التاسع عشر. إذا تضافر هذان العنصران مع ما سبق أن أتينا على ذكره حول بقاء الفكر الإصلاحيّ داخل النسق الأرثوذكسيّ وحيلولة ذلك دون تحقيق قطيعة مع النظام المعرفي في العصر الوسيط وما ترتب عن ذلك من ارتهان الخطاب الإصلاحيّ لمسالك بلاغيّة وأغراض توفيقيّة، يتحصل لدينا بذلك أن أكبر عوائق الإصلاح الدينيّ هي عوائق ذهنية وثقافية أساسًا. كتب الحدّاد في هذا الاتجاه: «قد يكون أول عائق للإصلاح في الذهنيات الإسلامية هو مفهوم الإصلاح ذاته»59.

ما دام الأمر كذلك، فلا بد من الإقرار بضرورة مراجعة العلاقة بين الإسلام والإصلاح، وهو ما يقتضي أولا مراجعة مفهوم الإصلاح الدينيّ ذاته وتخليصه من مجموعة من السرديّات والصور التمجيديّة الناجزة حوله؛ فتُصبح العلاقة الجديدة بين الإسلام والإصلاح نتاجًا لـ«باراديغم» جديد للإصلاح الدينيّ. وتلخص العبارة التالية هذا التوجه: «إن الإصلاح الدينيّ قضية يجب أن تتعَلْمَن»60، وذلك بنقلها من مجال العقيدة والهويّة إلى طرحها باعتبارها من قضايا العصر الحديث، لتطرح في إطار الدراسات الدينيّة المقارنة في مسعى للبحث عن وضع إصلاحيّ مشترك بين الثقافات الدينيّة التاريخيّة61.

تتمفصل داخل هذا المنظور مهمتان فكريتان: مهمة علميّة ملقاة على عاتق علم مقارنة الأديان، وتختص بالتمييز بين الثوابت التي تُشكِّل أصول كل ثقافة دينيّة وبين وضع ثقافي تمر منه تلك الثقافة في حقبة معينة، ومن شأن هذا التمييز أن يرصد خصائص وأنماط التوتر التي تنتج بين هذين المستويين زمنَ التحولات الحضارية التي تصيب الثوابت والأصول في مجرى الانتقال من وضع ثقافي إلى آخر، ومن ثم يُصبح بمقدورنا تحديد خصائص ما يمكن تسميته بـ «الطور الإصلاحيّ» الذي يسم كل ديانة؛ أما المهمة الثانية، وهي بالأساس ذات طبيعة هيرمينوطيقيّة، فتُباشر البحث في استراتيجيات كونيّة للملاءمة الممكنة بين الثوابت وبين معطيات مجتمعات باتتْ تتشابه كلها في توجهها نحو العلمنة السياسيّة والاجتماعيّة.

على هذا النحو، لا تصبح العلاقة بين الإصلاح والدين علاقة ارتباط بالبداهة -أي مسألة استعمال الدين للإصلاح-، لأن الحاجة إلى الإصلاح الدينيّ تَكفُّ هنا عن أن تكون مُجرد رغبة في خلاص ثيولوجيّ أو مطلب نضاليّ، بل تتحدد كنِتاج لوضع أنثروبولوجيّ مُعقد يرتبط بالانتقال من ثقافة المُشافهة إلى ثقافة الكتابة وبتحولات مجتمعية نوعية لا كمية. من المؤكد في زمن «الخروج من الدين»، بالمعنى الذي حدده مارسيل غوشيه، أنّ الظاهرة الدينيّة نفسُها جزء من مشمولات هذا الانتقال النوعي وأحد أوجهه وتعبيراته، إذ تنتقل من البساطة الأولى إلى التعقيد، بعد التوتر والتداخل بين المتخيل الدينيّ والمتخيل الاجتماعيّ الناتج عن هذا الانتقال. يستمد الإصلاح الدينيّ وجوده وشرعيته من هذا التداخل والتوتر، ويمثل بهذا الاعتبار «وجها من باراديغم ‘العود الأبدي’»62. وبهذا المعنى الذي يستعيره الحدّاد من أعمال ميرتشا إليادي، يتحدد الإصلاح الدينيّ كظاهرة ثقافيّة مُلازمة لبنية الديانات الكتابيّة وليس شيئًا مختصا بدين معين أو حدثًا طارئًا يُضاف إلى الدين. لكنّها ظاهرة غير قابلة للتعميم على كل المجتمعات الدينيّة؛ فمن وجهة النظر هذه، لا تُطرح قضية الإصلاح الدينيّ في المُجتمعات الدينيّة التي لم تشهد هذا الانتقال لكونها «لا تعرف مفهوم الدين مجردًا عن حياتها الاجتماعيّة العادية»63.

في ضوء هذه المقاربة، يعيد الحدّاد تعريف مفهوم الإصلاح الدينيّ كالتالي: «إعادة ترتيب جماعية للعلاقة بين المتخيل الدينيّ والمتخيل الاجتماعيّ في الخبرات المعيشية لمجموعات بشرية ذات تنظيم اجتماعيّ وثقافيّ مُعقد»64. والإصلاح الدينيّ وفق هذا التعريف يستدعي مفهوما آخر هو مفهوم «الأزمة الدينيّة» كما تطرحها نظريات الاجتماع الدينيّ.

تتجلى الطرق التي تتعامل بها المجتمعات مع أزمتها الدينيّة في اتجاهين: اتجاه نكوصي يحاول تطويع المتخيل الاجتماعيّ ليخضع للمتخيل الدينيّ، واتجاه ثان يسعى لتطويع المتخيل الدينيّ ليخضع للمتخيل الاجتماعيّ. وبينما يميل الأول الى استعادة «أسطورة التأسيس» واسترجاع الوضع الطفولي الأول بدل مُواجهة التوتر الفعلي القائم، يعمل الاتجاه الثاني على «إعادة صياغة جزء من الحاجيات المستجدة في لغة دينيّة وتحت غطاء الشرعية الدينيّة»65. يعمد العقل الدينيّ في هذه الحالة إلى «حيلة» تأويل الماضي والتصرف فيه بدل السعي إلى التخلص منه.

يتحدد الإصلاح الدينيّ في الحالة الثانية كوضع تأويليّ يُعنى بفاعليّة فكريّة هي «إعادة الصياغة والمواءمة»66 بدل استراتيجيّة استعادة أسطورة التأسيس. يقول الحدّاد: «الإصلاح الدينيّ يتمثل عمومًا في هذا الوضع التأويليّ الذي يميز مجتمعات ذات تنظيم معقد إذا اضطرت (...) أن تعيد التصرف في نظمها الثقافية والاجتماعيّة»67. يُملي هذا المنظور إعادة طرح قضية الإصلاح الدينيّ في الإسلام والتفكير فيها من منطلق أنثروبولوجيّ، أي كقضية ثقافيّة68 لا كقضية ثيولوجية أو هوياتيّة. من هذه الزاوية، ستفقد التجربة الإسلاميّة استثنائيتها المزعومة ودلالتها الدينيّة التي تنظر إليه كانبعاث لخلاص هوياتيّ فوق تاريخيّ ليغدو جزءًا من سيرورة تاريخيّة واجتماعيّة وتأويليّة وعنوانًا لتحول ثقافيّ وحضاريّ مُعقد69.

بإقحام التجربة الإسلامية للإصلاح في قلب هذه المقاربة، وقد سعى الحدّاد بالفعل إلى القيام بذلك، فإنَّ الإصلاح يستمد دوافعه العميقة لا من وقائع وظروف سياسيّة وأوضاع اجتماعيّة محدودة زمانًا ومكانًا، بل من العناصر المميزة للفعل الإنساني من حيث هي «حدوس أصلية» مشتركة وكونية تعبر عن بنية العقل الدينيّ الكتابي كما يقول الحدّاد70. وتبعا لذلك، يصبح من الضروري «الإقرار بأن الإصلاح الدينيّ الحقيقي في الإسلام لا يتمثل في مراجعة بعض المواقف والأحكام، بل التفكير بعمق في وظائق الدين وعلاقته ببقية المؤسسات الاجتماعيّة»71.

خاتمة

يتضح مما سبق أن مشروع الإصلاح الدينيّ استمد قاعدته من ثيولوجيا كلامية، وأنه لم يعْدُ أن قام بإعادة إخراج المبادئ الاعتقاديّة القديمة إخراجًا جديدًا، وبذلك ظل حبيس النسق الذهني الكلامي وإن تحرَّر من المضمون المذهبي. صحيح أنّ بعض نصوص واجتهادات عبده كادت تلامس تخوم التنوير واتسمت بقدر ملحوظ من الجدة والروح النقدية، غير أن جهوده تلك لم تترتسم وتتجذر لتشكل نسقًا رافدًا لمشروع تنويريّ معلن. لم يكن إنجاز عبده كافيا للدفع بحركة العقل المسلم نحو وظائف فكرية أكثر استنارة. بكلمات أخرى، لم تسمح طبيعة النسق الأرثوذكسيّ الذي قام عليه مشروع الإصلاح الدينيّ للرجل أن ينخرط في منهج النظر الفلسفي التأويلي وأن يتخذ منه وسيطا في صياغة إشكالية الإصلاح. يقول الحدّاد: «ترجع محدودية كل أصناف الاجتهادات المقترحة إلى أنها لا تبني نظرية جديدة في التأويل»72. ويتضافر ذلك مع ما يقوله العروي في ذات الاتجاه: «لم يظهر عندنا إصلاح دينيّ بالمعنى الجذري، أي إعادة النظر في المعتقدات. كل ما حصل حتى عند محمد عبده، مع أنه هو الذي يستحق أكثر من غيره اسم المصلح، هو تقديم المفاهيم القديمة، بأسلوب مبسط، وتسلسل أقرب إلى الإدراك وبإقحام كلمات ومفاهيم عصرية في مجرى الكلام. ومن الواضح أن حركة تأويلية جديدة لن تصدر عن جماعة من العلماء التقليديّين»73.

بهذا الاستنتاج، ينتهي بنا الحدّاد إلى أن المعنى العميق للإصلاح الدينيّ «لن يكون جهدًا مجدِّدا إلا إذا ارتكز على نظرية جديدة في التأويل واقتبس من المعارف التأويلية الجديدة ونتائج مباحثها في قضايا الوعي والعلاقة بين الذهنيّ والخارجيّ ومناهج التعامل مع النص وغير ذلك»74. ولن يُفهم الإصلاح الدينيّ بهذا المعنى إلا إذا تجاوزنا «الباراديغم الإصلاحيّ الإحيائيّ» الذي يكتفي بمراجعة بعض المواقف والأحكام أو إعادة الترجيح بينها وتكييفها وإدماجها مع المتطلبات الذهنية والمادية التي يفرضها تطور أنماط العيش.

قائمة المراجع

جدعان، فهمي. أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العصر الحديث. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ١٩٧٩.

الحدّاد، محمد. الأفغاني: دراسة ووثائق. بيروت: دار النبوغ، ١٩٩٧.

الحدّاد، محمد. الإسلام: نزوات العنف واسترتيجيات الإصلاح. بيوت: دار الطليعة، ٢٠٠٦.

الحدّاد، محمد. البركان الهائل في آليات الاجتهاد الإصلاحيّ وحدوده. تونس: دار المعرفة، ٢٠٠٦.

الحدّاد، محمد. تجارب كونية في الإصلاح الدينيّ. الرباط: مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، ٢٠١٦.

الحدّاد، محمد. ديانة الضمير الفردي ومصير الإسلام في العصر الحديث. بيروت: المدار الإسلامي، ٢٠٠٧.

الحدّاد، محمد. محمد عبده قراءة جديدة في خطاب الإصلاح الدينيّ. بيروت: دار الطليعة، ٢٠٠٣.

شرابي، هشام. المثقفون العرب والغرب. ط ٣. بيروت: دار النهار، ١٩٨٧.

عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخيّ. ط ٥. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ٢٠٠٦.

العروي، عبد الله. مفهوم العقل: مقالة في المفارقات. الدارالبيضاء: المركز الثقافي العربي، ١٩٩٦.

لونوار، فريديريك. المصنف الوجيز في تاريخ الأديان. ترجمة: محمد الحدّاد. تونس: المركز الوطني للترجمة، ٢٠١١.

Deconchy, Jean Pierre. Lorthodoxie religieuse: Essai de logique pychosociale. Paris: Les Éditions ouvrières, 1971.

Deconchy, Jean Pierre. Orthodoxie et sciences humaines. Paris: Mouton Editeur, 1980.

Haddad, Mohamed. Le Réformisme musulman, une histoire critique. Milano: Mimesis, 2013.

Laroui, Abdallah. L’idéologie arabe contemporaine: essai critique. Paris: François Maspero, 1967.


1* أستاذ الفلسفة بجامعة شعيب الدكالي في الجديدة، المغرب.

صدر له بهذا الصدد: الأفغاني: دراسة ووثائق (بيروت: دار النبوغ، 1997)؛ وقبله، كان الحدّاد قد ناقش أطروحته للدكتوراه حول محمد عبده بإشراف محمد أركون سنة 1994 بجامعة السوربون بعنوان: Essai de critique de la raison théologique: L’exemple de Muhammad Abduh. وقد قام بنشرها في صيغة معربة ومختصرة بعنوان: محمد عبده قراءة جديدة في خطاب الإصلاح الدينيّ (بيروت: دار الطليعة، 2003).

2 ينظر: تجارب كونية في الإصلاح الدينيّ (الرباط: مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 2016)؛ ديانة الضمير الفردي ومصير الإسلام في العصر الحديث (بيروت: المدار الإسلامي، 2007)؛ كما قام بترجمة كتاب فريديريك لونوار Petit traité d’histoire des religions إلى العربية: المصنف الوجيز في تاريخ الأديان (تونس: المركز الوطني للترجمة، 2011).

3 Abdallah Laroui, L’idéologie arabe contemporaine: Essai critique (Paris: François Maspero, 1967).

4 عبد الله العروي، مفهوم العقل: مقالة في المفارقات (الدارالبيضاء: المركز الثقافي العربي، 1996).

5 يُنظر: فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العصر الحديث (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1979).

6 هشام شرابي، المثقفون العرب والغرب، ط 3 (بيروت: دار النهار، 1987 ص 37.

7 المرجع نفسه، ص 38.

8 الحدّاد، محمد عبده، ص 17.

9 المرجع نفسه، ص 82.

10 المرجع نفسه، ص 37.

11 المرجع نفسه، ص 38.

12 المرجع نفسه، ص 69.

13 المرجع نفسه.

14 المرجع نفسه.

15 المرجع نفسه، ص 81.

16 المرجع نفسه، ص 122.

17 المرجع نفسه، ص 80.

18 لمزيد من التفاصيل يُنظر: المرجع نفسه، ص 20-29، 84-88.

19 المرجع نفسه، ص 16.

20 المرجع نفسه، ص 83.

21 المرجع نفسه، ص 89.

22 المرجع نفسه؛ والمقصود بالعوائق القديمة: بقاء مشروع اللاهوت النقدي في حدود الإطار الكلامي وعجزه عن الانفتاح على النقد التاريخيّ (ص 84وهو الأمر الذي تجسده مقدمة الرسالة وما تضمنته من استعادة للمصادرات المدرسية الكلاسيكية في علم الكلام. أما العوائق الجديدة فالمقصود بها واقع الهزيمة والتمزق السياسيّين في المجتمعات الإسلامية.

23 المرجع نفسه، ص89.

24 Cf.: Jean Pierre Deconchy, L’orthodoxie religieuse: Essai de logique pychosociale (Paris: Les Éditions ouvrières, 1971).

25 Jean Pierre Deconchy, Orthodoxie et sciences humaines (Paris: Mouton Editeur, 1980), p. 7.

26 الحدّاد، محمد عبده، ص 220

27 محمد الحدّاد، البركان الهائل في آليات الاجتهاد الإصلاحيّ وحدوده (تونس: دار المعرفة، 2006)، ص 225.

28 المرجع نفسه.

29 المرجع نفسه، ص 221

30 المرجع نفسه.

31 المرجع نفسه.

32 المرجع نفسه، ص 36

33 المرجع نفسه، ص 39.

34 وهنا يسجل الحدّاد المفارقة التي وضعت الاجتهاد الفقهي في مأزق وذلك بكون تنظيم قواعد الاجتهاد جاءت «في فترة لاحقة لقيام وتطور المذاهب الفقهية المعتمدة ما يعني أن ممارسة الاجتهاد ظلت خاضعة لتطور التفقه المذهبي أكثر بكثير من خضوعها لتطور التفكير النظري حول طرائق الاستدلال»، يُنظر: المرجع نفسه، ص 40.

35 المرجع نفسه.

36 المرجع نفسه، ص 43.

37 المرجع نفسه، ص 45.

38 المرجع نفسه.

39 المرجع نفسه.

40 المرجع نفسه، ص 50.

41 المرجع نفسه، ص 62.

42 المرجع نفسه، ص 64.

43 المرجع نفسه.

44 المرجع نفسه، ص 94.

45 المرجع نفسه، ص 69.

46 الحدّاد، محمد عبده، ص 221.

47 المرجع نفسه، ص 225.

48 المرجع نفسه.

49 الحدّاد، ديانة الضمير الفردي، ص 120.

50 محمد الحدّاد، الإسلام: نزوات العنف واسترتيجيات الإصلاح (بيوت: دار الطليعة، 2006) ، ص 171.

51 المرجع نفسه، ص 124.

52 المرجع نفسه، ص 130.

53 المرجع نفسه، ص 153

54 المرجع نفسه، ص 133-154.

55 المرجع نفسه، ص 126.

56 المرجع نفسه، ص 156.

57 المرجع نفسه، ص 117

58 طوّر الحدّاد مصطلحيْ «الراعي النائم» و«أسطورة الطوفان» في كتابه الإسلام: نزوات العنف واستراتيجيّات الإصلاح، فالراعي هو الفرد البطل «الذي يغلبه النعاس عقودًا ثم يستيقظ فيتدارك ما فات، وكأن الأشياء حوله لم تتغير» (ص 23ويتضمّن هذا المصطلح سرديّة ظلّت ملازمة للفكر الإصلاحيّ الإسلامي ومفادها أن «مهمة الإصلاح قام بها رجل وتمّت على يديه، أي أنّ الظروف الاجتماعيّة لا يُحسب لها حساب أمام عزم الفرد إذا قرر النهوض بأمته» (ص 47والذي يبدو لنا أنها في أشكالها المتعددة -الإمام الغائب عند الشيعة؛ أو الخليفة العادل عند السنة أو الولي الصالح عند المتصوفة- وليدة النموذج النبوي أو محاولة إعادة إنتاج له؛ أما أسطورة الطوفان فترتبط بنموذج ذهني تاريخيّ أسطوري، وتدل على «مواصلة الإنسان الحلم الدفين بأن يصوغ العالم من جديد على مبادئ الطهارة الأولى وصورة الفردوس المفقود، وأن يعيد إلى التاريخ بكارته بعد أن لوثه الاغتصاب الإنساني للنقاء» (ص 11).

59 المرجع نفسه، ص 23.

60 الحدّاد، تجارب كونية في الإصلاح الدينيّ، ص 197.

61 المرجع نفسه، ص 199.

62 الحدّاد، ديانة الضمير الفردي، ص 245.

63 المرجع نفسه، ص 17.

64 المرجع نفسه.

65 المرجع نفسه.

66 Mohamed Haddad, Le Réformisme musulman, une histoire critique (Milano: Mimesis, 2013), p. 18.

67 الحدّاد، ديانة الضمير الفردي، ص 18.

68 المرجع نفسه، ص 19.

69 Haddad, p. 14.

70 Ibid., p. 14.

71 الحدّاد، الإسلام: نزوات...، ص 10.

72 الحدّاد، البركان الهائل، ص 92.

73 عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخيّ، ط 5 (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2006) ص 37، الهامش 16.

74 الحدّاد، البركان الهائل، ص 23.

The enlightenment and its limits in Islamic reform thought: A critical reading of Mohamed Haddad’s Project

Youness El Ahmadi*

Abstract

This paper aims to provide an intellectual contribution that sheds light on the problems of the concept of enlightenment and its narratives in Islam during the modern era, through a critical window represented in the works and approaches of the Tunisian thinker Mohamed Haddad. For more than two decades, Haddad published several studies on issues of enlightenment and religious reform in the Renaissance era, according to a critical and analytical methodology that combined historical criticism with the philological investigation of important Arab Renaissance texts and philosophical interpretation of the problem of religious reform in the Islamic experience from the angle of an epistemological approach that does not present the “Nahda” as an event above history, to move towards studying the structure of reformist thought and questioning its epistemological validity by analyzing the mechanisms of discourse production and its functioning within the reformist texts and examining its functions and limits.

Keywords: Enlightenment; Reform; Renaissance; Mohamed Haddad; Muhammad Abduh

* Professor of Philosophy at Chouaib Doukkali University in El Jadida, Morocco.