نحو إعادة بناء قيم التّنوير في عالم مُتغيِّر

(الجزء الثاني)*

كمال عبد اللطيف**

doi:10.17879/mjiphs-2023-4607

ملخص:

ينسى الذين يتحدثون اليوم عن إخفاق مشروع التنوير في المُجتمعات العربية، أن جهود رواد الإصلاح والنهضة، الذين عملوا على غرس قيم العقل والنقد والحرية والتقدم في ثقافتنا، لم تكن نظرية خالصة، بل إنها كانت وما تزال منذ بداياتها الأولى وإلى يومنا هذا، أشبه بعملية في المواجهة، مواجهةَ سقفٍ في النظر واللغة، ومواجهة تاريخ من الاستبداد، وتاريخ من الهيمنة النصية. لهذا اختلطت وتداخلت مهامهم، وذلك رغم كل الجهود المضنية التي بذلوا، في باب دعم وتعزيز منطق العقلانية ولغتها في ثقافتنا. ولعلهم نسوا أيضاً، أن التوجهات النظرية الجديدة التي ترتبط بما نسميه عقلانية وعي الذات، العقلانية التاريخية والنقدية، التي مافتئت تتّسع وتتطوَّر في فكرنا منذ الثلث الأخير من القرن الماضي، تعد في العمق مُحصلة لمختلف صُور التمرين والتمرس، التي مارسها الجيل الأول والثاني من النهضويين العرب، منذ أواسط ونهايات القرن التاسع عشر، زمن بداية التفاعل المنتج مع روح الأزمنة الحديثة. تحتاج المجتمعات العربية وهي تواصل تطلُّعها إلى بناء مجتمع عصري، إلى مبادئ الفكر المعاصر ومقدماته، وفي قلب هذه المبادئ مكاسب فلسفة الأنوار، مبادئ قادرة على إعادة بناء المجتمع والفكر والتاريخ مجدداً. ونحن نعتقد أنّه لن تكون هناك مردودية، لتحركات الأمس واليوم، إذا لم تصنع الحدود التي تُرَكِّب القطائع المطلوبة وبلا تردُّدٍ ولا مخاتلة، مع مختلف أوجه التقليد والاستبداد ومظاهرهما في مجتمعنا، الأمر الذي يفيد أنّ معاركنا من أجل الأنوار والتنوير ما تزال متواصلة.

كلمات مفتاحية: تنوير؛ النهضة العربيّة؛ مثاقفة؛ عالم مُتغيِّر

* هذه الورقة تتمة للجزء الأول، الذي نُشر عام 2022 بمجلة مونستر للدراسات الإسلامية والفلسفية، يُنظر: كمال عبد اللطيف، «نحو إعادة بناء قيم التّنوير في عالم مُتغيِّر (الجزء الأول)»، مجلة مونستر، المجلد 1، العدد 1-2 (2022)، ص 93-106.

** أستاذ الفلسفة السياسيّة والفكر العربيّ المعاصر بجامعة محمد الخامس في الرباط.

Towards a Reconstruction of Enlightenment Values in a Changing World (Part II)

Kamal Abdellatif *

Those who declare the failure of the enlightenment project in Arab societies forget that the efforts of thinkers in the era of the Arab Awakening “Nahda”, who worked to instill the values of reason, criticism, freedom and progress in our culture, were not only theoretical but more like a process of confrontation, a confrontation within the limits of thinking and language, and a confrontation with a history of tyranny A history of fundamentalist thought. They may also have forgotten that the new theoretical trends that are linked to what we call self-aware rationality, historical rationality and critical rationality are in depth the outcome of the various efforts undertaken by the first and second generation of thinkers during the Arab Awakening in their reading of history and tradition, since the middle and end of the nineteenth century when the productive interaction with the spirit of modernity began. Arab societies, while continuing their aspiration to build a modern society, need the principles and premises of contemporary thought, and at the heart of these principles are the gains of the Enlightenment philosophy that is capable of rebuilding society, thought and history again.

Keywords: Enlightenment; Arab Renaissance; Acculturation; Changing World

* Professor of Political Philosophy at Mohammed V University in Rabat.

قمنا في الجزء الأول من عملنا بعرض مكثَف لأبرز سمات فلسفة الأنوار، وأهم الانتقادات التي تعرضت لها. وسننتقل في الجزء الثاني، إلى معاينة وتشخيص كيفيات تلقيها في الفكر العربي المعاصر، بهدف الوصول إلى ما يوضح مساعينا الرامية، إلى مواصلة إعادة التفكير في مبادئها وقيمها في عالم متغيِّر، وبناء على شروط وسياقات نظريّة تاريخيّة، مختلفة عن الشروط التي احتضنتْ عمليات تبلورها وتطوُّرها. وقبل الحديث عن كيفيات تلقي ثقافتنا المعاصرة لفكر الأنوار، منذ منتصف القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا(1)، نشير إلى أن عمليّة المثاقفة الحاصلة بين الفكر العربي وثقافة الأنوار، تستند إلى سياق تاريخي مُحَدَّد وجملة من المعطيات، التي نعتقد أنها حدَّدت وتُحَدِّد للتلقي إمكانيّة الحصول، كما تُحَدِّد له إمكانيّة بروز موانع وصعوبات تجعل تحققها صعبًا، أو مشروطًا بمقتضيات في الفهم وفي التأويل، مرتبطة ببنيات الفكر السائد واللغة المستعملة(2).

أولا. في أشكال تلقِّي خطابات النهضة العربيّة للتنوير

نُعايِن في هذا المحور، كيفيات تفاعل ثقافتنا مع روح الأنوار، أي مع مبادئها ومفاهيمها وقيمها. يتعلق الأمر بالجهود الفكريّة التي حصلت في الثقافة العربيّة، طيلة أزيد من مائتي سنة، حيث تبلورت جملة من العمليات الهادفة إلى توطين التّنوير ومفاهيمه في ثقافتنا وخطاباتنا في النهضة والإصلاح. وقد برزت الملامح العامة للتفاعل المذكور في القرن التاسع عشر، في كتابات الطهطاوي (1801-1874) وخير الدين التونسي (1822-1889)، وغيرهما من الأعلام المؤسسين لخطاب النهضة العربيّة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، جامعةً بين مساع في الإصلاح تحاول اختراق نظام لغتنا، عن طريق ابتكار مفردات قادرة على التفاعل مع أفكار ولغات أخرى، مع محاولات في التوفيق والجمع بين تراثنا وبعض مكاسب المعرفة في الأزمنة الحديثة(3).

بدأت العمليّة بكثير من العسر في العبارة والفكرة، بحكم الهيمنة التي كاد يمارسها الموروث الثقافي السائد، بحمولته المختلفة عن الروح الجديدة المحمولة في الروافد الثقافيّة الغربيّة، التي انخرط مجتمعنا في التعلم منها، في زمن تحكمه شروط محدَّدة في التاريخ والثقافة، شروط ومقتضيات الزمن الإمبريالي، الأمر الذي ساهم بصورة قسريّة في تطوير ثقافتنا(4). وسنتوقف قصد التمثيل والتوضيح، أمام بعض نصوص نهضويي مطلع القرن العشرين، بحكم أن أعمالهم استوعبت كثيرًا من مُقدّمات التّنوير، فطوَّرت ما جاء عامًا في أدبيات بعض نهضويي القرن التاسع عشر. ونتجه في خطوة ثانيّة، لبناء ما يُساعدنا في التعرف على جهود نظريّة أخرى، تجاوز أصحابها مواقف كتاب عصر النهضة، وأنجزوا عمليات في التركيب النظري والتاريخي لأسئلة التّنوير في ثقافتنا، وبلورتْ أعمالهم بصور متنوعة، ما يمكن اعتباره بمثابة إعادة بناء لفكر الأنوار في ثقافتنا.

ولابد من الإشارة هنا، أننا نعتمد في قراءة أنماط التلقي العربي لفلسفة الأنوار، على نتائج دراسة سابقة لنا، في موضوع العقلانيّة والعقلانيّة النقديّة في الفكر العربي المعاصر(5)، قمنا فيها ببناء نمذجة نظريّة ثلاثيّة، توضح أنماط عقلانيات فكرنا المعاصر، الأمر الذي مَكَّنَنَا من الاقتراب بصورة منظمة، من كيفيات تلقي ثقافتنا للعقلانيّة كما تبلورت وتطورت في الفلسفة الحديثة والمعاصرة. أطلقنا على النموذج الأول، الذي تمثله أعمال مصلحي النهضة في القرن التاسع عشر عقلانيّة إدراك الفارق، الفارق بيننا وبين الغرب، وسمينا النموذج الثاني، الذي تبلور في النصف الأول من القرن العشرين، عقلانيّة المقايسة والتماثل. أما النموذج الثالث، فأطلقنا عليه عقلانيّة الوعي بالذات. وقد حصلت في هذه الأخيرة نقلة نوعيّة، تَمَّ فيها تجاوُز وعي الفارق ووعي المماثلة، واقتربنا من لحظة الوعي بالذات ضمن شروط جديدة. وقد سمحت لنا هذه النمذجة بتركيب عقلانيات فكرنا المعاصر، ووضعتنا أمام صور تداخل وتطور هذه العقلانيات في ثقافتنا. وسنعتمد في هذا العمل على هذه النمذجة، أثناء فحصنا لأشكال تلقي خطابات النهضة العربيّة لعقلانيّة الأنوار(6).

1. التّنوير في المشروع النهضوي العربي

ندرج شكل تلقي فكر الأنوار وعقلانيته النقديّة في فكرنا المعاصر، ضمن عقلانيّة المقايسة والتماثل(7)، بحكم تميز إسهام الجيل الثاني من كتاب عصر النهضة العربيّة بحماسة عاليّة لقيم التّنوير، وعدم ترددهم في مماثلة التقاليد السائدة في ثقافتنا، بأنماط التقليد التي واجهها فلاسفة الأنوار في أوروبا. وقد تَمَّ ذلك في علاقة مع المعارك السياسيّة والثقافيّة، التي نشأت داخل مجتمعاتنا، نقصد بذلك معارك مواجهة الاستعمار، ثم معارك التحرير والاستقلال، حيث عرف العالم العربي في الفترة المذكورة، مخاضات وتوترات وثورات كبرى زعزعت كثيرًا من ثوابته، وساهمت في كسر جوانب عديدة من قيود التقاليد السائدة في مجتمعاته. وداخل عقود النصف الأول من القرن العشرين وفي بداياتها بالذات، نشأت الجامعات الأولى في بعض الأقطار العربيّة، كما نشأت في نهايتها وبعد حصول أغلب البلدان العربيّة على استقلالها السياسي، بعض المؤسسات الفكريّة والمنظمات المدنيّة، الراعيّة لمشاريع العقلانيّة والتّنوير في مجتمعاتنا.

سنوجه عنايتنا نحو عينة من النهضويين الذين دافعوا عن تيارات العقل والتّنوير انطلاقًا من مبدأ المقايسة والتماثل، حيث اعتبر أغلبهم أن رياح التأورب بكل ما تحمله من مكاسب، ستترك آثارها في الثقافة العربيّة. ونذكر من بينهم على سبيل التمثيل، فرح أنطون (1874-1922) ولطفي السيد (1872-1963) وعلي عبد الرزاق (1888-1966) وسلامة موسى (1887-1958) وطه حسين (1889-1973) وإسماعيل مظهر (1891-1962). وقد اتسمت أعمال هؤلاء، بالدعوة إلى الانخراط في التاريخ العالمي الجديد، تاريخ المشروع الحضاري الصاعد، مشروع الغرب الأوروبي، وقد أصبح في سياق تطور التاريخ العالمي، عنوانًا لحقبة تاريخيّة كاملة.

نتصوَّر أن ما يجمع نهضويي بدايات القرن العشرين، يتمثَّل في انخراطهم المتحمس لخيارات التّنوير وأهدافه. ندرك ذلك ونحن نتابع مواد منبر «الجامعة» الذي أنشأه فرح أنطون، سنة 1897(8)، متوخيًا أن تكون له مهمة مماثلة لمهام الموسوعة. كما نُتابع علامات أخرى في «المجلة الجديدة» (1929) لسلامة موسى، حيث كان يستحضر في مختلف أعدادها شعارات التّنوير، كما تبلورت في كتابات فلاسفة الأنوار. فقد كان في ذهن كل من فرح أنطون وسلامة موسى، أن المعركة واحدة هنا وهناك، وأدوات المواجهة واحدة، كما أن المستقبل واحد. ونعثر في نصوص «المنتخبات» (1937) للطفي السيد(9)، على كثير من ملامح عقلانيّة التّنوير، أثناء نقده للتقليد ودفاعه عن العقل والحرية(10).

نكتشف في مقالات لطفي السيد عن الحريّة والتحرر، ما يساهم في التأسيس لخيار سياسي محدَّد، خيار يُبرز دور الحريّة في معالجة مظاهر اليأس السائدة في مجتمع متأخر ومحتل. فقد كان يؤمن بدور الأفكار في تغيير المجتمعات، وانخرط في تأسيس الجامعة المصريّة، لتشكل فضاء للمعرفة وأفقًا لبناء فكر جديد(11). وإذا كان فرح أنطون يدافع في كثير من مقالاته وسجالاته في الجامعة(12) على ضرورة فصل الدين عن الدولة(13). فإن سلامة موسى كان بدوره يدافع في مختلف إصداراته عن المعرفة العلميّة وأدوارها في مواجهة الخرافة. وإذا كان من المؤكد أن مقالاته لا تتجاوز الإطار الصحفي البسيط والمبسط، في المجلات التي كان يشرف عليها ويشارك في تحريرها، فإنه لا ينبغي أن لا نغفل الإشارة هنا، إلى أنه ظل طيلة حياته، يخاصم التيارات الفكريّة التقليديّة، المُغَيِّبة للعقل والمعقول في فكرنا المعاصر(14).

لا نقرأ في نصوص من ذكرنا من النهضويين، معطيات في الأصول النظريّة للمجالين المعرفي والسياسي، قدر ما نقف على جملة من التطلعات والشعارات التي تستوعب بطريقتها الخاصة، جوانب من الروح النقديّة المُؤسِّسة لفكر الأنوار(15)، الروح التي تبلورت ملامحها الفلسفيّة الكبرى، بفضل الجهود المتكاملة لمجموعة من فلاسفة الأزمنة الحديثة، من ماكيافيل (1469-1527) إلى روسو (1712-1778) مرورًا بديكارت (1596-1650) وهوبز (1588-1679) وسبينوزا (1632-1677) ولوك (1632-1704) ومنتسكيو (1689-1755) وكانط (1724-1804). ففي آثار من أشرنا إليهم من الفلاسفة، تبلورت النواة العقلانيّة والملامح الوضعيّة العامة لتيارات فكر الأنوار، وقد بنت فلسفاتهم أبرز نقط الارتكاز النظريّة، الرافعة للخيار التّنويري في الفكر الحديث والمعاصر(16).

تعززت دوائر ومجالات عقلانيّة التّنوير في هذه اللحظة، بميلاد روافع معرفيّة وتاريخيّة منحتها شروطًا داعمة، حيث أُنشِئت في الفترة نفسها أول الجامعات العصريّة في أغلب الأقطار العربيّة. وساهم إنشاؤها في تنويع مجالات المعرفة، المستندة إلى ثورات المعرفة والعلم في الأزمنة الحديثة، الأمر الذي قَلَّصَ من هيمنة النموذج المعرفي الوسطوي، المستند إلى منطق نصي مغلق. وأدى انفتاح الجامعات الناشئة على مجالات معرفيّة جديدة، إلى توسيع مساحة حضور التيارات الفكريّة العقلانيّة، وما يترتب عنها من أبعاد تنويريّة. كما ترجمت في هذه اللحظة داخل الجامعات العربيّة في مصر والشام، بعض أعمال ديكارت وسبينوزا وجون لوك، وقدمت شروح لبعض أعمال كانط. وترتب عن هذه الجهود رغم قلتها، ونخبويّة المجموعات التي تلقتها وعملت على تعميمها، نتائج كان لها آثار واضحة في صور الاقتراب الجديدة، التي تبلورت في موضوع البحث عن أفق في التّنوير مكافئ لواقع ثقافتنا ومجتمعنا.

لا تنخرط جهود من أشرنا إلى جوانب من كيفيات تلقيهم لقيم التّنوير في ثقافتنا، في عمليّة التأسيس النظري للمبادئ والمفاهيم التي بلورتها فلسفة الأنوار، بل تتجه انطلاقًا من مبدأي المقايسة والمماثلة، إلى الإقرار المباشر بأهميتها في معالجة مظاهر التقليد السائدة في مجتمعنا، وهم لا يترددون في إسناد رؤيتهم بجملة من المعطيات الأخلاقيّة والسياسيّة، محاولين مواجهة مآزق الصراع السياسي الدائر في مجتمعاتهم زمن انخراطهم في الإصلاح، المُوَاكِب لزمن الحرب العالميّة الأولى، وما تلاها من أشكال مواجهة ومقاومة الاستعمار الغربي في المشرق والمغرب العربيين.

2. الوعي بالذات، الطريق العربي نحو التّنوير

انتقد هشام جعيط كيفيّة تلقي النهضويين العرب لأدبيات التّنوير، مبرزًا الطابع السطحي والتبشيري لكثير من خطاباتهم. كما حاول تفسير الرفض الذي جُوبهت به قيم التّنوير في ثقافتنا، مشيرًا إلى أن السبب في ذلك، يعود إلى مواقف بعض فلاسفة الأنوار من الدين، إضافة إلى صلابة ثقافة التقليد في المجتمعات الإسلاميّة، يقفان وراء المساحة الصغيرة، التي انتصرت لِقِيَّمٍ ينظر إليها المجتمع بأعيُن الريبة(17). إلا أن متابعة أشكال تطوُّر مشروع التّنوير في ثقافتنا، في علاقته بمختلف التحولات التي عرفتها تُبرز أن المساحة المذكورة اتسعت، وأصبحت تستوعب فضاءات أكبر للعقل والأنوار، وذلك بعد أزيد من نصف قرن على صور وأنماط تلقي نهضويي مطلع القرن العشرين لهذه القيم(18).

تتيح لنا مواصلة الاهتمام بفكر الأنوار في الثقافة العربيّة، أن ننتبه إلى الطفرة النوعيّة التي حصلت في فكرنا خلال النصف الثاني من القرن الماضي، فقد صدرت مجموعة من الأعمال الفكريّة، التي تجاوز أصحابها عمليات التبشير بقيم التّنوير، التي هيمنت على مساهمات نهضويي اللحظة السابقة، وانخرط الفكر العربي في بناء أشكال أخرى من التفاعل مع مكاسب فلسفة الأنوار، وذلك انطلاقًا من مقاربة اهتمت بأسئلة التّنوير في ضوء إشكالات الحاضر العربي، الأمر الذي يُبرز العمق الذي اتسمت به نظرتهم لأفق التّنوير وأدواره المرتقبة في مجتمعاتنا.

اتجهت أعمال المفكرين والباحثين المتواصلة اليوم، بأشكال مختلفة ومتطورة في ثقافتنا، إلى تعقل روح فلسفة الأنوار، وذلك في ضوء عنايتهم بأسئلة وتحديات الراهن العربي. فلم يعد ممكنًا بعد امتحان ثقافاتٍ ومجتمعاتٍ عديدة لمبادئ فكر الأنوار، أن نواصل النظر بمقدماتها ونتائجها في نهاية القرن العشرين ومطالع القرن الجديد. ولتوضيح ما نحن بصدد التمهيد له، نشير إلى أن أعمال عبد الله العروي وهشام جعيط (ت. 2021) ومحمد عابد الجابري (ت. 2010) ومحمد أركون (ت. 2010)، على سبيل التمثيل لا الحصر، أنتجت جهودًا نظريّة مركَّبة، أثناء اقترابها من مفاهيم وقيم الأنوار(19). نتبين ذلك في حرصهم على استحضار الشروط الذاتيّة لمجتمعاتنا، ومقتضياتها المتصلة بالخصوصيات التاريخيّة والثقافيّة التي تحملها، وكذا استحضار الخصوصيّة التاريخيّة والثقافيّة لفلسفة الأنوار في سياق نشأتها الغربيّة، وفي صور التطور الذي لحقها، الأمر الذي أنتج في فكرنا حوارًا خلاقًا مع قيم التّنوير. ولهذا السبب، نعتبر أن مساعيهم الفكريّة تتجاوز عقلانيّة المقايسة والتماثل، وتبني في فكرنا الملامح الكبرى لما أطلقنا عليه عقلانيّة الوعي بالذات، وهي عقلانيّة تروم المساهمة في بناء مقدِّمات تنويرٍ مُكافئ لأسئلة وتطلعات مجتمعنا(20).

لا نقف في أعمال عينة المفكرين والباحثين الذين يمثلون هذه اللحظة، على حوار مباشر مع فلسفة الأنوار، بل نجد أن أعمالهم تكشف درجات تمثلهم للأفق الفكري والتاريخي، الذي أشاعته قيم التّنوير في التاريخ، مع محاولات في إعادة التفكير فيها ومراجعة بعض أسسها. صحيح أن البعض منهم، اتجه للبحث في حدود بعض قيم التّنوير، مثلما فعل أركون وجعيط(21). وأن بعضهم الآخر، استعان بروحها النقديّة وحاول تكييفها مع مقتضيات التاريخ والثقافة العربيّة الإسلاميّة، كما نجد في مشاريع وأطروحات نقد العقل العربي عند كل من الجابري وأركون. وبمحاذاة من ذكرنا، نجد من استعان بروحها النقديّة، وهو يواجه أوضاع التأخر التاريخي العربي، كما هو عليه الحال في أعمال العروي. إلا أنهم جميعًا تمثلوا بطرق مختلفة روح فلسفة الأنوار، وبلورت أعمالهم نوعًا من الحوار النقدي والإيجابي مع أرصدتها في الفكر والسياسة والتاريخ. وسنقوم اعتمادًا على عيِّنات من أعمالهم، بعرض مكثَّف لجملة من المعطيات الكاشفة، لجوانب من أنماط تلقيهم وتطويرهم لفكر الأنوار.

2. 1. عبد الله العروي

يستند المشروع الفكري للعروي إلى مكاسب العقلانيّة في القرن الثامن عشر، ومشروع التحرر الليبرالي في القرن التاسع عشر، كما تستند إلى تصوُّر معيّن للماركسيّة. وهو ينطلق قبل ذلك، في بناء خياراته الفكريّة من موقفه العام من التأخر التاريخي العربي، الذي شكَّلت هزيمة 1967 لحظة من لحظاته الفاصلة. وقد عمل طيلة خمسة عقود من الكتابة والبحث، على بناء مشروع فكري إصلاحي يتوخى المساهمة في تجاوز المصير العربي، مشروع مكَّنه من تشخيص عِلل التأخر التاريخي السائدة في الواقع العربي، مع التركيز على مجال الصراع الفكري الدائر في مجال الأيديولوجيا العربيّة المعاصرة، في علاقته بتحولات التاريخ العربي والعالمي(22).

انصب اهتمام العروي على أسئلة التاريخ وأسئلة التقدم، وحاول دون توقف ولا تردُّد ولا تراجع، نقد التصورات اللاتاريخيّة في النزعات الإصلاحيّة العربيّة، التيارات السلفيّة والتيارات الانتقائيّة، مؤكدًا على أهميّة التعلم من دروس التاريخ الحديث والمعاصر في الفلسفة والمعرفة والسياسة. وقد رسم في بداية حياته الفكريّة في ستينيات القرن الماضي، برنامجًا محددًا في الإصلاح الثقافي والإصلاح السياسي. وضمن هذا البرنامج، نتبيَّن الملامح الكبرى لمآثر الأنوار في أغلب أعمال العروي، كما نقرأ كيفيات توظيفه لفلسفات أخرى، استوعبت بدورها أشكالًا من الحوار مع مبادئ التّنوير. إنها تحضر في ثنايا كتبه في المفاهيم، الحريّة والدولة والعقل(23). كما تحضر في كتاب السنة والإصلاح (2008) وكتاب ديوان السياسة (2009)(24)، وتحضر بشكل واضح في المقدمة التي كتب للترجمة التي أنجز لنص دين الفطرة لروسو (2012)(25).

نتبين المعالم الكبرى لقيم التّنوير في مساعيه الفكريّة النقديّة والتاريخيّة، وهي مساع تتوخى تمثُّل مكاسب ومنجزات الحداثة والتحديث. نكتشف هذا الأمر بوضوح تام في أبحاثه الأولى المجموعة في العرب والفكر التاريخي (1973)(26)، الذي أعاد نشره في طبعة ثانيّة بالفرنسيّة بعنوان أزمة المثقفين العرب (1974)(27). ولو توقفنا أمام بعض جهوده الفكريّة قصد التوضيح، لوجدنا أنفسنا أمام مشروع فكري يتجه صاحبه للإقرار بأن بلوغ عتبة النهضة العربيّة يتطلب التعلم من الآخرين؛ التعلم مما يسميه في كتابه مفهوم العقل (1996) «المتاح اليوم للبشريّة جمعاء»، أي محاولة الاستفادة من مختلف مكاسب الحضارة المعاصرة في المعرفة والسياسة والتاريخ(28). ولتوضيح ما نحن بصدده، سنتوقف أمام محتويات المقدمة التي كتب للترجمة التي أنجز لنص روسو دين الفطرة.

تتيح لنا المقدمة التي كتب للنص المذكور، أن نقف على صور تمثله لفلسفة الأنوار، حيث يشير إلى أن أعمال روسو تندرج ضمن منظور مفكري عصر الأنوار للمجتمع الجديد، كما يوضح موقفه من الدين الطبيعي، مبرزًا أهميّة هذه المواقف في دائرة النقاش المتصل بموضوع حريّة العقيدة، وهو النقاش الذي يجري اليوم بأشكال مختلفة بيننا وداخل مجتمعنا. ونقف في مقدمة العروي المُعَدَّة بتركيز شديد، على أبرز الخلاصات التي ركَّبها التصور الأنواري في موضوع الدين الطبيعي، يتعلق الأمر بإعطاء الأولويّة للعقل من جهة، وإيلاء مبدأي الوضوح والبساطة الأهميّة اللازمة لحصول الاقتناع بمسألة الإيمان. وإذا كان بعض دعاة الدين الطبيعي ينكرون الوحي، فإن روسو منح في تصوراته الدينيّة مكانة خاصة للضمير الأخلاقي(29).

لا يتوقف العروي سواء في هوامش الترجمة أو في متنها، عن تسجيل ملاحظاته المرتبطة بسياقنا التاريخي، الذي يحتاج اليوم بدوره إلى خيارات ومفاهيم روسو، من أجل نقد منظومة العقائد والتقاليد السائدة. وسواء في الترجمة أو في الهوامش والتعليقات، نجد أنفسنا أمام جهد نقدي لا يمارس صاحبه عمليّة تَخندق ناسخةٍ لمبادئ وقيم التّنوير، بل يقوم بعمليات تَفَكُّرٍ في جملة من المعطيات النظريّة والتاريخيّة، المرتبطة بأسئلة التّنوير وسياقاته في مجتمعنا، ويعمل في الآن نفسه، على تجنب معطيات أخرى في النص، يرى أنها مرتبطة بقضايا لم تعد مطروحة بالصورة، التي تفاعل معها صاحب النص المُتَرْجَم في زمنه، وهو ما يترتب عنه القول بأهميّة ما يتجه العروي لإبرازه في موقف روسو من الدين، في علاقته بجوانب من القضايا التي يمكن أن تساعد مجتمعاتنا، في بناء كيفيات أخرى في النظر إلى الدين والتدين والسياسة والمجتمع، كيفيات تسعفنا ببناء مواقف وخيارات، مكافئة لطموحاتنا النهضويّة ولمقتضيات حاضرنا وتاريخنا(30).

تحضر روح التّنوير في أعمال العروي في صورة مركبة، والمقصود بالتركيب هنا، أن أعماله تضيف إلى مزايا أنوار القرن الثامن عشر، منجزات التّنوير كما تطورت في بعض فلسفات القرنين الأخيرين، دون إغفال المنطلقات الفكريّة لمشروعه، والمتمثلة في تطلعاته الْمُعْلَنَة إلى تجاوُز تأخرنا التاريخي. وكل هذا يعزز نوعيّة العلاقة التي رسمت أعماله مع فكر الأنوار، ومع الأدوار المنتظرة منه في موضوع تحديث المجتمعات العربيّة.

2. 2. محمد عباد الجابري

نشأ في الثقافة العربيّة بجانب مشروع العروي وبمحاذاته مجموعة من المشاريع الفكريّة الأخرى، التي استعان أصحابها بدورهم بمكاسب الأنوار، وخاصة في مستوى الدروس التي خلف الموسوعيون في الموقف من الدين ومن التراث الديني والطقوس والوسائط الدينيّة، وكذا في السياسة والأخلاق. وقد صدرت في الثلث الأخير من القرن الماضي، مصنفات هامة في باب نقد التراث العربي الإسلامي، ونقد القراءات المحافظة للتراث. ومن أبرز هذه الأعمال، نذكر قصد التمثيل أعمال كل من الجابري وأركون. وقد استعانا في مصنفاتهما المخصَّصة لنقد الموروث الثقافي الإسلامي بمفاهيم التّنوير، كما استعانا بعُدَّة منهجيّة جديدة، وصوَّبا نظرهما بالذات، نحو بناء قراءة تتجاوز القراءات التمجيديّة للماضي، وتتيح لنا بناء ثقافة جديدة متصالحة مع ذاتها ومع العالم(31).

لا يتعلق الأمر في مشروع نقد العقل التراثي، بأبحاث معنيّة بالرصيد التراثي في بنياته النصيّة لذاتها، قدر ما يتعلق بمقاربات تتجه لنقد وتفتيت كل ما هو جامد في المرجعيات الفكريّة التراثيّة، وبناءً على أسئلة مرتبطة بتحديات التقليد، التي تمثلها في فكرنا ومجتمعنا تَرِكَةُ العقائد والنصوص المطلقة، التي لم يتمكن الذين يواصلون اليوم إحياءها وتعميمها، من إدراك نتائج الهزات التاريخيّة والمعرفيّة والسياسيّة، التي صنعت الملامح العامة للفكر الإنساني في الأزمنة الحديثة والمعاصرة.

يؤكد كل من الجابري وأركون علاقة مشروعيهما في النقد، بمسألة التحرر من قيود الماضي. إنهما مقتنعان بأن استمرار سطوة آليات تقليديّة على أنظمة النظر في ثقافتنا اليوم، تعد من أهم عوامل استمرار التأخر الحاصل في مجتمعاتنا وثقافتنا(32). ولهذا السبب، ينبغي في نظرهما استخدام مِعْوَلِ النقد الأنواري، ومختلف المكاسب المعرفيّة والمنهجيّة في الفكر المعاصر، لكسر مختلف اليقينيات القاطعة التي ورثناها من عصورنا الوسطى.

نتصوَّر أن النقد في آثارهما، موقف من الوثوقيّة، وموقف من اليقينيات المتعالية. كما نتصوَّر أن الجهد البحثي في أعمالهما، يَنْصَبُّ على محاصرة النصوص والمفاهيم والتصورات والكلمات، ضمن دلالتها المبنيّة في إطار نظري، محكومٍ بنظام في المعرفة لا يمكن تجاوزه إلا بتكسيره، وتركيب نظامٍ جديدٍ ينفتح على المكاسب والثورات المعرفيّة والمنهجيّة الجديدة. إن وظيفة النقد في أعمالهما تَقويضيّةٌ، إنهما ينطلقان من اعتبار أن تاريخ الأفكار في البداية والنهاية، عبارة عن تاريخ تقويض متواصلٍ لِأَسْقُفِ عِمارات النظر، حيث يتجه التطور لبناء أنظمة معرفيّة جديدة، مرتبطة بالشروط التاريخيّة والعلميّة، الصانعةِ لأنماط وأنظمة المعرفة في التاريخ(33).

لابد من التوضيح هنا، أننا لا نفكر في علاقة كل من الجابري وأركون بفكر الأنوار، لأنهما أنتجا مصنفات تحمل عنوان النقد، بل لأنهما انخرطا في أعمالهما النقديّة بروح أنوارية(34)، وتوخيا معًا من وراء أعمالهما الاستفادة من مكاسب الأنوار. يستلهم الجابري في أعماله المتنوعة مكاسب الأنوار ومكاسب الفكر المعاصر، ويستلهم في الآن نفسه، مجموعة من المعطيات المتضمنة في جوانب معينة من التراث، ولا يجد أي حرج في الجمع بين بعض الروافد الذاتيّة والروافد التي انتقلت إلى ثقافتنا، زمن تفاعلنا مع فكر الآخرين، مثلما كان يحصل دائمًا في التاريخ. ولهذا السبب تتخذ عقلانيته النقديّة في بعض أوجهها، منحى مختلفًا عن الخيارات النقديّة الجذريّة في أعمال أركون، أو في أعمال العروي. وهذا الاختلاف تؤسسه في نظرنا الرهانات السياسيّة، المرتبطة بأشكال الصراع السياسي والإيديولوجي داخل مجتمعنا، والتي يمنحها الجابري عناية خاصة وهو يفكر في سؤال الموقف من التراث(35).

لا علاقة بين رباعيّة الجابري في نقد العقل العربي (التكوين والبنية، والسياسة والأخلاق) وبين ثلاثيّة النقد الكانطي (العقل النظري والعملي ومَلَكَة الحكم). ولا علاقة بين مشروعه النقدي للتراث الإسلامي، بالنقد الذي مارسه كل من فولتير وروسو للمسيحيّة وتقاليدها في الثقافة والمجتمع الأوروبي. كما أن نقده وتشريحه للعقل السياسي والأخلاقي في الفكر الإسلامي، لا يلتقي مباشرة بجهود الكانطيّة وهي ترسم حدود العقل العملي. ولم يَنْحَزْ الجابري في نقده للعقل العربي لا إلى مواقف فولتير الرديكاليّة من الدين ومن المسيحيّة، ولا إلى مواقف روسو ذات المنزع الرومانسي والإنساني. بل اجتهد من أجل تركيب عقل نقدي متصل بشروط وتحديات أخرى، فأنتج طريقه في التّنوير بجوار من ذكرنا وجاءت نزوعاته التّنويريّة بمحاذاة تنويرهم.

تنفتح أنوار الجابري على مختلف مكاسب وإخفاقات التّنوير في التاريخ المعاصر، كما تنفتح على تاريخنا المحلي وموروثنا الثقافي، إنها تفكر في الأنوار متوخيّة بناء مشروع في التّنوير، تمنحه شروط مجتمعنا مشروعيته النظريّة والتاريخيّة، ذلك أن الجابري لا يتردد في مسألة استيعاب مبادئ وقواعد الأنوار في التاريخ، كما أنه لا يتردد في النظر إلى مقتضيات حاضرنا ومستقبلنا، باعتبارها تُعَدُّ الإطار المناسب لعمليات التفكير مجددًا، في بناء التّنوير القادر على مساعدتنا في مواجهة تحديات حاضرنا، فيترتب عن ذلك، بناء مقدمات تنوير عربي، مكافئ لتطلعات مجتمعاتنا إلى بناء ثقافة جديدة ومجتمع جديد، ثقافة يكون بإمكانها أن تتجاوز القراءات التراثيّة للتراث، وتبني بدلها ما يمهد الطريق للإبداع والتقدم.

تلتقي جهود أركون مع جهود الجابري في نقد التراث، يلتقيان في الخيار النقدي، وتتميز جهود أركون عند مقارنتها بأعمال الجابري باستراتيجيتها النقديّة الجذريّة، ومحاولاتها الراميّة إلى الإحاطة بالظاهرة الإسلاميّة كظاهرة حيّة في التاريخ، بل كظاهرة صانعة للتاريخ. إنها تلتقي بمشاريع بحثيّة أخرى منجزة في مجال الفكر العربي المعاصر، كما تتقاطع مع جهود أخرى، وهي تعبر بكثير من القوة والحيويّة عن درجة تطور الوعي النقدي، في فضاء الفكر العربي المعاصر، وتعكس درجة استيعاب فكرنا المعاصر للمنهجيات المعاصرة في مجال تناول ومقاربة الظواهر الإنسانيّة، ظواهر التاريخ وظواهر الوعي في التاريخ.

يُضفي الطابع الفلسفي لجهود أركون على أعماله قوة تجعلها تحتل مكانة الصدارة في سياق الصراعات الجارية اليوم، في الفضاء السياسي العربي، وهي الصراعات التي تروم استثمار الرأسمال الرمزي الديني في المعارك السياسيّة الدائرة في الوطن العربي. ففي هده الجهود نعثر على الأسئلة المحفّزة على التفكير، الأسئلة التي لا تكتفي باستعادة الموروث، بصورة تكراريّة، بل تحاول إبراز حدوده وصياغة آليات عمله، بما يسمح بتوضيح كثير من القضايا، والإشكاليات ويتيح للمهتمِّين بقضايا التراث، وبآليات توظيفه السياسي، معرفة خلفيات الخطاب وبنياته، أي معرفة حدوده ومحدوديته.

يمكن إبراز جوانب من كيفيّة تعامل أركون مع مآثر الأنوار، وذلك باستعادة موقفه من العلمانيّة، وهي تقع في صُلْب موقف الأنوار من الدين. فقد كتب في ثمانينيات القرن الماضي بحثًا هامًا عن علمانيّة مصطفى كمال أتاتورك، ركَّب فيه جهدًا في تقديم ونقد المنظور الأنواري في مسألة فصل الدين عن الدولة. وقد انطلق في عمله من تحديد وضبط الإطار النظري والتاريخي للأنوار، ليخلُص إلى أن العلمانيّة الناشئة في القرن الثامن عشر لم تستطع التخلص من عقيدة النجاة أو الخلاص، فقد استبدلت خَلاَصَ السماء بخلاص الأرض، واستبدلت العقيدة بالمعتقد(36).

تلتقي الراديكاليّة النقديّة للعروي بجذريّة العقل النقدي في أعمال أركون، كما تلتقي بالنزعة الريبيّة التي تسكن كثيرًا من منطوق وبياضات أعمال جعيط، وتترك أعمال من ذكرنا، مجموعة من النتائج في فضاءات فكرنا، لتشكِّل مداخل جديدة لأنوار عربيّة قادمة. ولا يهمنا هنا بحث أوجُه الاختلاف أو الالتقاء والتتام في أعمالهم المشار إليها، على سبيل التمثيل لا الإحاطة، فقد قمنا بذلك في أبحاث أخرى أنجزناها عن أهم أعمالهم(37)، إن سياق هذا العمل مَعْنِي بالمشترك بينهم، أي بعقلانيّة التّنوير في فكرهم، عقلانيّة الوعي بالذات في عالم متغير.

2. 3. هشام جعيط

ننتقل إلى أعمال مفكر ثالث، نتصوَّر أن مُختلفَ أعماله تعتمد قيم التّنوير وتستوعبها بطريقة خاصة، نقصد بذلك أعمال المفكر التونسي هشام جعيط. ولابد من الإشارة في البداية إلى أن خياراته الفكريّة، ليست بعيدة عن روح الخيارات التي يدافع عنها العروي. وإذا كنا نعرف أن الجامع الأكبر بينهما، يتمثل في تخصصهما معًا في البحث التاريخي، وعنايتهما الواضحة بتاريخ الأفكار. ولا يجب أن نغفل جامعًا آخر بينهما، نقصد بذلك انخراطهما في مواجهة أسئلة التأخر التاريخي العربي، وعنايتهما بسؤال النهضة العربيّة، وحرصهما داخل هذا الأفق، على الانحياز لروح الأنوار كل بطريقته الخاصة، سواء في اختيار مجالات البحث أو في لغة البحث وأسئلته(38).

تتمتع أعمال جعيط بكثير من الكثافة النصيّة وكثير من الشجاعة في الرأي، يتجلى ذلك في مصنفه الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة والمصير العربي (1974)، كما يتجلى في كتابه أوروبا والإسلام (1978)(39)، وتزداد خياراته وضوحًا في المحاضرات التي جمع في مصنفه أزمة الثقافة الإسلامية(40). وقد شكَّلت ثلاثيته في الوحي والسيرة النبوية(41)، عملًا ينفتح على قضايا وإشكالات نظريّة وتاريخيّة وعقائديّة، نقصد بذلك موضوع الوحي والنبوة في التاريخ الإسلامي. ففي ثلاثيته عن الوحي والنبوة، يقترب من الوحي مستعينًا برؤيّة الأنواريّة وعقلانيّة تفهميّة، منطلقًا من اعتبار أن الوحي «جدل بين أعماق الضمير المحمدي، وهو الإله الداخلي، وبين الإله الخارجي فيما وراء العالم»(42).

تبني أعمال جعيط حوارًا مع فلسفة الأنوار، وهو بالرغم من محاصرته النقديّة للتصورات الغربيّة المغرضة عن التاريخ الإسلامي، لحظة معالجته لأنماط العداء المتبادلة بين الإسلام والغرب، ونقده للمركزيّة الغربيّة ولمواقف الغرب من الإسلام في أزمنة محددة(43)، إلا أنه مقتنع تمامًا بأن الطريق الذي يجمعنا بالغرب وأنواره واحد، وذلك رغم كل العوامل المولِّدة للاختلاف والتباعد. وبناء عليه، لا مفر في نظره من الانخراط في أزمنة الحداثة والتّنوير، كما تبلورت وما فتئت تتبلور في التاريخ، ليس في أوروبا موطنه الأول، بل في كل أنحاء العالم، حيث انخرط الجميع منذ القرن التاسع عشر في عمليات من التفاعل الإيجابي والسلبي مع منتوج الثقافة الغربيّة، ليصبح مشروع التّنوير في النهاية مشروعًا للجميع. أي ليصبح مشروعًا قابلًا للتطوير والامتحان وإعادة البناء(44).

تعلم جعيط من الروح النقديّة الأنواريّة، لزوم المغامرة وضرورتها في التاريخ. إنه يعانق قدره، وهو يقبل الخلاص التاريخي الممكن، لكنه لا ينسى عذابات الروح، لا ينسى التناقض الأكبر بين الله والعالم، بين الأبديّة والعدم، يبني تصوراته الفكريّة والتاريخيّة بكثير من الاحتياط، يستوعب لغة المطلق الدينيّة باعتبارها جزءًا من التاريخ العام، الذي يُفْتَرَض فيه حصول المساعي الإنسانيّة، الراميّة بلغاتها وحساسياتها المختلفة إلى فهم الإنسان والعالم في أبعادهما المختلفة(45).

لنقف قليلًا أمام بعض مواقفه وخياراته في الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة والمصير العربي، ولو اكتفينا بوضع اليد فقط على المنزع الريبي كسمة محايثة للنص الذي يكتبه، لكنا بصدد ملامسة مظهره النقدي. ولو انتقلنا من ذلك، إلى عتبة الاستماع لهواجسه النظريّة في تناقضاتها وإيقاعاتها المختلفة، لوجدنا أنفسنا أمام ثراء في النظر يعكس درجة من أعلى درجات التوتر الروحي والتاريخي في فكرنا المعاصر؛ فليس من السهل في نظره التفريط بالذات العربيّة الإسلاميّة في تركيبها التاريخي، كما تشكل في دائرة الزمان، ولا يمكن في الوقت نفسه، إغفال مكاسب الفكر المعاصر في تعددها وغناها المتقطع النظير، وتُعَدُّ مواقف الحيرة والتردد جزءًا من معركة الذات مع زمانها الخاص وأزمنتها العامة، معركتها مع ذاتها ومعركتها مع تحولاتها الحاصلة في التاريخ بفعل مقتضياته، التي لا يمكن تجنبها ولا تجنب انعكاساتها على مساراتها التاريخيّة العامة(46).

ينتقد جعيط مثل العروي والجابري التصور السلفي للتاريخ، ويرفض المنظور الغوغائي لحركات الإسلام السياسي و«الصحوة الإسلامية»، لكنه يحفظ للإسلام وللذاكرة الإسلاميّة امتياز التعبير العميق، عن جوانب من مكونات ومكنونات الذات التاريخيّة، مساعي البشر الساعين لتعقل ذواتهم في التاريخ، ووعي مصيرهم في زمانياته المفتوحة على الأبدية(47).

لا جدال في كون المعطيات التي قدمنا من خلالها، عينة من كيفيات امتحان وإبداع الأنوار في ثقافتنا، وضعتنا أمام الصعوبات والعوائق التي ما تزال تواجه أنماط وعينا الجديد بقيم التّنوير في حاضرنا، الأمر الذي يجعلنا نؤكد أن التّنوير صيرورة، وإن واجهته اليوم مفتوحة على معارك، بعضها قائم وبعضها يتحين الفرص للقيام بما يمهد الطريق لمزيد من توطين قِيَّمه وتأصيلها داخل ثقافتنا. فنحن «نعيش في زمن يتجه لرفع غلالة السحر عن العالم، سحر الأقدمين وسحر المحدثين، من أجل المساهمة في بناء عالم بدون أسرار»(48).

تضعنا جهود من توقفنا أمام أعمالهم في علاقتها بفكر الأنوار، أمام طريق ينفتح على أفق في التأسيس لأنوار عربيّة، طريق يُمهد لعصر جديد وقيم جديدة، ونحن نفترض أن جوانب هامة من قوتها، تتمثل في التفاعل الإيجابي والنقدي الذي مارسته مع ميراث التّنوير ومكاسبه، إضافة إلى أشكال استحضارها لمختلف التحديات والأسئلة المطروحة اليوم في ثقافتنا ومجتمعنا. ونفترض أن الجدل الثقافي والسياسي المتواصل اليوم في مجتمعاتنا، في موضوعات التحديث والموقف من التراث ومن الماضي، يؤشر بوضوح على عمليات التهييء والتمهيد لأنوار عربية(49).

3. سرديّة الإئتمان والتّنوير المعكوس

أتاحت لنا المعطيات النظريّة التي اعتمدنا في هذا المحور، معاينة التطور الذي لحق مقدمات ومبادئ الأنوار في الثقافة العربيّة، حيث أصبح سِجِلُّ ثقافتنا يستوعب قراءات متعددة لقيم الأنوار. وأصبح بإمكاننا اليوم أن نتحدث عن بدايات تبلور أنوار عربيّة، تتقاطع مع إرث الأنوار في أوروبا وخارج أوروبا. وما منح التفاعل الذي ركَّبه النهضويون العرب في مطلع القرن العشرين مع قيم التّنوير، ومن جاء بعدهم وتجاوز كيفيات تمثُّلهم للأنوار، هو حرص المتأخرين على توظيف روح الأنوار، مع محاولات لدمجها وإعادة بنائها في ضوء التطور الذي لحقها، وفي ضوء الأسئلة المرتبطة بالوضع العربي والتاريخ العربي. وتظهر لنا عمليّة فحص خطابات الأنوار في فكرنا، جملة من المعطيات المتصلة بسياقات تاريخنا المحلي، الأمر الذي بجعلنا نقف في أعمال بعض من أشرنا إليهم في عقلانيّة وعي الذات، على جملة من التناقضات والتوترات والمفارقات، في موضوع جهودهم الراميّة إلى بناء أنوار مكافئة لتطلعاتنا، حيث لا يمكن التقليص من حدَّة ما ذكرنا، إلا بمزيد من إبداع ما يجعل الإسهام العربي في كونيّة الأنوار أمرًا فعليًا.

لا ينبغي أن نغفل ونحن نرتب مكاسب الأنوار في ثقافتنا، أشكال الرفض والنقد المتواصلة لمبادئه وقيمه في الفكر العربي المعاصر. وسنحاول في الفقرات القادمة، الإشارة إلى عيِّنة من الفكر الذي يواصل مخاصمته للأنوار. وقد اخترنا الإشارة إلى النقد الذي بناه الأفغاني في نهاية القرن التاسع عشر، في الرسالة التي انتقد فيها مَنْ أطلق عليهم إسم الدَّهريين.

تتيح لنا قراءة أعمال طه عبد الرحمن المُعَدَّة بكثير من الجهد والترتيب النظريين، الوقوف أمام محاولة في الفكر يروم صاحبها بإخلاص وحماس كبيرين، بناء مشروع في تجديد النظر الإسلامي، يحاول فيه جاهدًا التخلص من الإرث الرمزي لتاريخ الفلسفة، الأمر الذي يُحَوِّل مصنفاته في النهاية، إلى مصنفات مُخاصِمة لتراث العقل والعقلانيّة في التاريخ(50). وإذا كان من المؤكد، أنه بإمكاننا أن ندرج أعماله الفكريّة في إطار مسعى نظري، يتوخى تركيب تصوُّرات دينيّة وأخلاقيّة مع ميول صوفيّة معلنة، فإن انشغالاته الروحيّة وانخراطه في نقد المذاهب والتيارات الفلسفيّة وبصورة قطعيّة، لَوَّنَ مشروعه في البحث بألوان غريبة ومتناقضة(51).

يتضح المشروع الروحي لطه عبد الرحمن بصورة جليّة في ثلاثيته دين الحياء، حيث خصص الأول منها لأصول النظر الائتماني(52)، وخصص الثاني لمواجهة التحديات الأخلاقيّة لثورة الاتصال(53)، وعَنْوَنَ الجزء الثالث روح الحجاب(54). ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الباحث واصل نقده الأخلاقي للأنوار ونزعاتها الدهرانيّة. فأصدر مصنفين يُتَمِّمَان ثلاثيته، بؤس الدهرانيّة (2014) ثم شرود ما بعد الدهرانيّة (2015)(55)، محاولًا مواجهة من يعدهم خصومه من الدهريين، ومتممًا بطريقته الخاصة، رسالة جمال الدين الأفغاني في الرد على الدهريين، رغم إشارته الهامشيّة المتعلقة بالفرق بين دهرانييه ودَهْرِيِّي الأفغاني، حيث أبرز أن الأفغاني اهتم أساسًا بالفلاسفة الماديين، في الوقت الذي تتجه أعماله لمواجهة الدَّاعين إلى فصل الأخلاق عن الدين.

نواجه في أعمال طه عبد الرحمن تشبثًا معلنًا بالطرقيّة ومفاتيحها في الرياضات الروحيّة، حيث يبني في مؤلفاته ما يسمح بالانخراط في هذه الرياضات، وقد ازدانت بالإشارات والعبارات، التي تبرز حاجة الإنسان لعوالمها. إنَّ حدة خصامه مع أسئلة التاريخ والعقل والحريّة، دفعته إلى اختيار الشهادة والتزكيّة والسَّداد، فانفتحت أمامه أبوات الصمت ومآثره، لتظل قيم التّنوير ومبادئه بمحاذاة كل ما كتب.

يخصص طه في كتابه المعنون بؤس الدهرانيّة، لنقد ما يسميه بآفات فصل الأخلاق عن الدين في الفكر الحديث والمعاصر، أي لنقد روح الأنوار، وذلك من خلال نقده للفلاسفة والمفكرين الذين ساهموا في بلورة عمليات الفصل في أعمالهم، يتعلق الأمر بكل من روسو وكانط وإميل دوركهايم ولوك فيري. وهؤلاء في نظره يجسدون الرؤيّة العلمانيّة، التي تروم بلغته تأليه الإنسان لنفسه. ومقابل ذلك، يبني جملة من التصوُّرات يطلق عليها نعت الإئتمانية(56).

لا يخفي طه عبد الرحمان غاياته البعيدة من مشروعه في النظر، فهو يروم أولًا وقبل كل شيء تجديد العقل بواسطة العمل الديني، أي بواسطة تجربة في القرب حاصلة بفعل التخلق القائم على تجربة شخصيّة في المعاناة الروحيّة. إن الفلسفة هنا تحضر كأداة، تحضر في صورة الوسائل التي تمكِّن من إثبات عمق هذه التجربة، إنها تحضر كلغة، كما تحضر كجهد منطقي مُبْتَكِرٍ لمفاهيمه المنحوتة، من أجل بلوغ السَّداد المأمول، المؤيد بالممارسة الإيمانيّة المفعمة بروح الدين أي بدين الحياء، الدين الذي يَهَبُ الذات خلاصها المأمول، ويمنحها القرب الأقل بعدًا. القرب من واهب البعد والقرب.

إذا كان طه عبد الرحمن، كما وضحنا، يمارس نقدًا خارجيًا لفلسفة الأنوار كما تبلورت في الفكر المعاصر، فإن الجابري يرى أن العودة إلى تجربة التخلق الصوفي تتجه إلى تزكيّة قيم الطاعة والتواكل، وذلك بترك التدبير التاريخي، وترك المصالح المرسلة للبشر العاملين في التاريخ، وهو الأمر الذي قامت النزعات الإصلاحيّة السلفيّة من أجل مقاومته في مطلع عصر النهضة، حيث دافع المصلحون المستنيرون عن ضرورة ترك أخلاق العبوديّة الطرقيّة، من أجل مواجهة مصيرهم التاريخي بالإقبال على الحياة وعلى العمل، مع تحصين السعي في مناكب الأرض بأخلاق التاريخ التي تبلورها مواثيق العمق الجماعي التاريخيّة والنسبية(57).

تقف أعمال طه عبد الرحمن أمام جهود التّنوير المتنوعة والمتطورة في الفكر العربي المعاصر، ولا يتردد في مخاصمتها ونقدها مجتمعة، وإعلان تبعيتها لتيارات الأنوار في الثقافة الحديثة والمعاصرة، إلا أن البدائل التي يتجه نحوها لا تستوعبها لغة التاريخ، لغة الجهد العقلي المتطلع إلى تعزيز آدميّة الإنسان، وتعزيز أخلاق المستقبل والتمهيد لروحانيّة الحداثة(58). ويمكن الإشارة إلى أن روح الجهد الذي أثمر المصنفات التي أنتج، تضعنا أمام تنوُّع ملحوظ في موقف ثقافتنا من الأنوار، كما تضعنا أمام آفاق جديدة أخرى تنتظرنا في المواجهة والنقد.

نقف في المعطيات التي اختزلنا في الفقرات السابقة، على عينة من أنماط التطور التي لحقت صور انخراط الفكر العربي في امتحان قيم ومبادئ التّنوير. وقد حرصنا فيها على توضيح وإبراز أن التفاعل الحاصل اليوم في ثقافتنا ومجتمعنا مع قيم فلسفات الأنوار، يتوخى إنجاز حوار مُنتج مع المشترك الإنساني، حيث يمكن أن يسعفنا التفاعل القائم والمتواصل، بتهييئ ثقافتنا لحوار أكثر مردوديّة مع المقدس في التاريخ. ولأننا نتصور أن التحولات الهامة في التاريخ، من قبيل استيعاب وتمثل مقدمات التّنوير ومكاسب عصر الأنوار، ومحاولة إبداع ما يكافئ روحها داخل نسيج حياتنا في الفكر وفي المجتمع، تتطلب منا مواصلة الجهد والعمل دون كلل، لعلنا نتمكَّن من تجاوُز العوائق التي حالت وما فتئت تحول بيننا وبين انخراط فاعل، ومَقْرُون بضرورة الاستفادة من مكاسب وتجارب البشر في التاريخ.

يكشف التنافر المتواصل في ثقافتنا بين تيارات التقليد وتيارات الحداثة والتحديث، أحد أوجُه الصراع المتواصل في مجتمعاتنا، وهو صراع يعكس في العمق أزمات مجتمعاتنا في مجالات التّربية والتّعليم، ولا يمكن نفيه دون عمليّة تاريخيّة، نحقق فيها توطين آليات في النظر، تقرِّبنا من متطلبات الوعي التاريخي الحديث والمعاصر، وما يترتَّب عنه من وعي جديد ومجتمع جديد نتطلَّع إليهما منذ عقود. ودون ذلك، سنظل سجناء وعي غير قادر على إدراك متطلبات التغيير الحاصل اليوم بيننا وأمامنا، في عالم سمته الأساس التغير والتغيير.

ثانيا. في حدود وآفاق التّنوير في الفكر العربي

اتجهنا في المحور السابق، لبسط وتشخيص كيفيات تفاعل ثقافتنا خلال القرنين الماضيين مع مكاسب التّنوير. فوقفنا على عيّنة من أنماط التلقي التي حصلت في الخطاب النهضوي، وأشكال التطوُّر التي لحقت هذا الخطاب في نهاية القرن الماضي. وقد انتقلنا ونحن نقترب من المعطيات النصيّة لكل من عقلانيّة المماثلة وعقلانيّة الوعي بالذات، إلى بناء تنوير معكوس، حيث تَمّ تجاوز الطابع الشعاراتي لمنجزات الأنوار في فكر النهضة العربيّة في مطلع القرن العشرين، وانخرط جيل جديد من مثقفي النهضة الثانية(59)، في امتحان مبادئ فلسفة الأنوار في ضوء مشاغل وإشكالات ثقافتنا ومجتمعاتنا، الأمر الذي يفيد أن مشروع إعادة بناء الأنوار المكافئة لمقتضيات مجتمعنا قد بدأت، وأصبح من المؤكد اليوم في ثقافتنا، رغم النزوعات الصوفيّة والأخلاقيّة التي تتحدث عن بؤس أنوار الأنوار أمام فيوضات الوجدان الصوفي وأوامر اللاّهوت. ونستطيع القول دون تردد، إن قيم الأنوار أصبحت تشكل اليوم، رافدًا فعليًا من روافد مواجهتنا لمختلف أنماط التقليد، التي ما تزال تهيمن على أغلب خياراتنا في الحياة.

نتجه في هذا المحور لمعاينة حدود ومحدوديّة الأنوار وقيمها في فكرنا، لعلنا نقف استنادًا إلى العرض التمثيلي السابق، على جوانب من سمات التّنوير في ثقافتنا. ونريد أن نسجل في البداية، ملاحظة عامة تتعلق من جهة بنوع من الاستسهال الحاصل، في عمليات الاقتراب من مكاسب التّنوير في ثقافتنا، الاستسهال الذي حوَّل أفق الأنوار والتّنوير في نظر بعض المنافحين لقيمه إلى شعارات مغلقة، وحوَّلها في نظر البعض الآخر، إلى فكر وثقافة مناقضة كليّة لموروثنا الثقافي، الأمر الذي يؤدي إلى لزوم رفضها. وقد حصل ذلك، دون إدراك عميق لمنجزات فلسفة الأنوار وأدوارها في التاريخ الحديث، في علاقته بشروطه الجديدة في المعرفة وفي المجتمع.

ننطلق ونحن نفكر في حدود ومحدوديّة التّنوير في ثقافتنا المعاصرة، من مسألة مركزيّة تعتبر معركة التّنوير اليوم في مجتمعنا معركة شاملة ومركَّبة، إنها معركة في الفكر وفي السياسة والمجتمع والتاريخ(60)، وكل إغفال لمجموع عناصرها في تكاملها وتقاطعها وتداخلها، يُقلِّص من إمكانيّة الإنجاز الذي نصبو إليه. ولهذا السبب، يشكل مشروع التّنوير الذي ما نزال نتطلع إليه البؤرة الناظمة والجامعة لأسئلة الراهن في مجتمعنا، وقد كان الأمر كذلك قبل أربعين سنة، ولعله سيستمر بعد هذه اللحظة بما يعادلها أو يفوقها في كَمِّ الزمان. ويبدو لنا في ضوء ما سبق، أن الأمر الذي لا ينبغي التراجع عنه أو التفريط فيه، هو أن نتخلّى تحت أي ضغط أو إكراه تاريخي أو نظري، عن مواصلة العمل من أجل بناء قيم التّنوير وإعادة بنائها باستمرار دُون كَلَلٍ، في حاضرنا المفتوح على أزمنة مضت وأخرى قادمة(61).

وضمن هذا الأفق، نرى أنّ من الأمور المستعجلة اليوم في ثقافتنا، العمل على تأسيس جبهة للتنوير تساعدنا على إيقاف مسلسلات التراجع والانكفاء، التي تُعاين بوضوح صور انتشارها المتكرِّر والمخيف في مجتمعاتنا، وفي وسائط الاتصال الشائعة في عالمنا الافتراضي، جبهة يمكن أن تشكل ذرعًا أماميًا، لمواجهة أشكال الاندحار الثقافي، الحاصل في بيئات الثقافة العربيّة منذ عقود، بفعل اتساع تيارات الفكر النصي المحافظ وتناميها، وانقطاع بل توقف وتيرة مغامرة الإبداع في فكرنا(62).

لا نتحدث في هذا العمل عن نموذج جاهز في التّنوير بأسئلته ومعاركه، ذلك أنّ التّنوير إبداع يجسده تاريخ من المواجهات والمجابهات والمعارك، مع التقليد والتقاليد المهيمنة على مجتمعنا. وإذا كان الانفجار السياسي العربي الحاصل سنة 2011، قد أفرز مشهدًا جديدًا في واقعنا الثقافي والسياسي، واكتشف الجميع بالملموس، أنّ التغيير المنشود في مجتمعاتنا لا يكون فقط بإسقاط النظم الاستبداديّة الفاسدة، بل إنّه يتطلب رؤيّة شاملة، لمختلف زوايا النهوض والتنمية، رؤيّة تشكل الخيارات الثقافيّة والاجتماعيّة قاعدة من قواعدها الصلبة(63).

تسعفنا قراءة تاريخيّة يقظة لحاضرنا ومخاضاته الجديدة، أن نتجنَّب المواقف السهلة في علاقتنا بكل من الإسلام ومآثر عصر الأنوار، ونبحث بدل ذلك عن طريق ثالث، يتيح لنا إعادة بناء المشترك في الحاضر الإنساني. لعلنا نتمكن من رسم معالم مفتوحة أمام القواسم المشتركة بين المجتمعات وبين الثقافات والمعتقدات في التاريخ، حيث يمكن أن نتحدث اليوم ضمن هذا الطريق الثالث عن روحانيات الحداثة، ونتطلع إليها باعتبارها تشكل أحد القواسم المشتركة في عالم يتوخى مزيدًا من رفع غلالات السحر عن عالمنا(64). ولا نتصوَّر وجود من يشكك في أهميّة العقل والحريّة والكرامة في التاريخ. في الحاضر وفي المستقبل هنا وهناك(65).

ينبغي أن لا ننسى الإشارة هنا، إلى أنه جرت بموازاة عمليّة استيعاب الثقافة العربيّة لمرجعيات الفكر الغربي في الحداثة والتحديث وفي قلبها قيم التّنوير، عمليات استنبات أخرى، مرتبطة بالمظاهر الماديّة المتمثلة في الجانب الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والتقني، حيث نقف أيضًا على مظاهر متعددة من عمليات التحول المعزِّزة لخيارات في الفكر والسياسة والاقتصاد، بهدف المساهمة في تطوير الواقع العربي في مختلف أبعاده، ومعنى هذا أن زمن التغريب الأوروبي المرتبط بالمرحلة الاستعماريّة، ساهم في تركيب ازدواجيّة داخل مجتمعنا، وأن هذه الأخيرة لعبت دورًا هامًا، في زحزحة وتكسير كثير من المرجعيات التقليديّة، المؤطرة لمظاهر وجودنا المختلفة(66).

يحق لنا أن نتساءل ونحن نُعايِن التراجعات الحاصلة اليوم، في كل من المجالين الثقافي والسياسي داخل مجتمعنا وثقافتنا، هل أخفق مشروع التّنوير العربي، بعد عقود من الجهود الهادفة إلى توطين قيمه في مجتمعاتنا؟(67) إن ما نلاحظه اليوم من انتكاسات جارفة لكثير من القيم التي اجتهد التّنويريُّون العرب، بمختلف أجيالهم في عمليات تبيئتها وترسيخها في الثقافة والمدرسة داخل مجتمعاتنا، يعد في نظر البعض خير دليل على إخفاق مسار التّنوير في الثقافة العربيّة. ويُبْرِز الذين يدافعون عن الإخفاق المذكور، ما يلاحظونه اليوم من ظواهر من قَبِيل انتعاش تيارات سياسيّة وثقافيّة تميل إلى تمجيد التقليد والمحافظة، وترفع شعارات العودة إلى نماذج في الدولة والمجتمع والمعرفة والقيم، لا تناسب التحوُّلات التي انخرطت مجتمعاتنا، في تملُّك جوانب منها منذ قرنين من الزمان. كما يغفل الذين يردِّدون مثل هذه الأحكام، أن معركة التّنوير في الثقافة العربيّة متواصلة، وما يتم تعميمه اليوم من مواقف عن مآلاتها، يمكن أن يُفْهَم في بعض أوجهه كآليّة من آليات المعركة المتواصلة. وضمن هذا السياق، نتصوَّر أن جهود أجيال مفكري النهضة العربيّة، يمكن أن تنتج في المستقبل الملامح الكبرى لتنوير عربي، قادر على مواجهة مختلف تحديات وعوائق التقليد السائدة في مجتمعنا.

ثالثا. إعادة التفكير في الأنوار

- 1 -

نتصوَّر أن أي محاولة لإعادة التفكير اليوم في مبادئ وقيم الأنوار، وفي طرق مواصلة إعادة بنائها في المحيط الثقافي العربي، يستدعي الانتباه إلى ثلاثة مؤشرات كبرى. يتعلق المؤشر الأول بالمرجعيّة النظريّة والتاريخيّة التي تبلورت وتطورت هذه القيم في إطارها، ضمن صيرورة تاريخيّة نظريّة معقَّدة. ونقصد بذلك صيرورة التاريخ السياسي الأوروبي الحديث والمعاصر، في شقه النظري والفلسفي على وجه الخصوص، وفي تمظهراته التاريخيّة والدينيّة والسياسيّة المتعددة والمتنوعة، وكذا في مستوى الثورات العلميّة التي واكبته، وانعكست آثارها في كثير من تجلياته. لا يعني الاستئناس برصيد هذه التجربة، أننا نروم استنساخها أو تحويلها إلى نموذج كوني مغلق، إن الاستئناس المقصود هنا، يُفْضِي إلى ضرورة استخلاص أهم المعطيات التي أفرزتها صيرورتها وما ترتب عنها من نتائج، أهَّلتها للمساهمة في بناء أرصدة نظريّة وتاريخيّة، مؤسِّسة لكثيرٍ من أَوْجُه وتجليات الفكر الحديث والمعاصر.

أما المؤشر الثاني، فيتعلق بالمحصّلات الكبرى لنوعيّة التفاعل الحاصل في ثقافتنا السياسيّة النهضويّة، مع إشكالات ومفاهيم وقيم فلسفات التّنوير. وإذا كنا نعي أن تفاعل ثقافتنا مع فلسفة الأنوار استغرق أزيد من قرن من الزمان، وأنه ما يزال متواصلًا إلى يومنا هذا، أدركنا أهميّة النتائج والمعطيات المترتبة عن التفاعل المذكور. ونحن نفترض أنَّ فِكرنا اليوم، يعي أهميّة الأنوار وأدوارها في التاريخ، ويعي في الوقت نفسه حدودها. ونحن نرى أنَّ الوعي العربي الجديد بأهميّة الأنوار وبحدودها في الآن نفسه، يمكِّننا من التخلص من طرق التفكير بالمثال، أي بنموذج الأنوار كما تبلور في التاريخ الأوروبي، لنتجه نحو آليات أخرى في النظر، تسمح لنا بتوسيع صور استلهامنا لمختلف مكاسب الأنوار كما انتقلت إلى ثقافتنا، وكما تمت في أنماط التلقي الأخرى داخل القارة الأوروبيّة وفي آسيا، الأمر الذي يتيح لنا إمكانيّة الإحاطة بعوائقها ومنجزاتها، ومختلف صور التحول والتطور التي لحقتها.

يتصل المؤشر الثالث بمجال المتغيرات التي ما فتئت تصنع اليوم؛ سياقات جديدة للتفكير في أسئلة التّنوير وضرورتها في الحاضر العربي. فلم يعد هناك من يجادل في كون التحولات التي يعرفها العالم، في موضوع الموقف من أشكال التوظيف التي تُمَارَس لتحويل المُقَدَّس إلى أداة من أدوات الحرب، تدفع إلى مزيد من معاينة الجهود الفكريّة الجديدة، التي تواكب ثورات التّنوير وثورات المعرفة في عصرنا، لاستثمار مآثرها والتعلُّم، من عوائقها وصعوباتها، في عالم يتجه للقطع مع تصورات ومواقف معينة، من مسألة حضور المقدس في المجال العام، حيث يعرف المهتمُّون بالفلسفة السياسيّة والأخلاقيّة المعاصرة، أن بعض أعلام الفكر الأخلاقي والسياسي المعاصر(68). لا يحملون حماسة الأنوار الراميّة إلى استبعاد إمكانيّة حضور الدين في المجال العام، وذلك انطلاقًا من وعيهم بضرورة التمييز بين علمنة الدولة وعلمنة المجتمع. وضمن هذا السياق، المُسْتَوْعِب لجوانب من متغيرات عالمنا، يعلنون رفضهم سواء لمسألة تقديس الدولة أو بناء لاهوت سياسي، مع ضرورة قبول صور التنوُّع والتعدُّد في العقائد داخل المجتمعات المعاصرة(69). ويمكن أن نتبيَّن في مثل هذه المواقف، ما يفيد نوعًا من تطوير أدبيات التّنوير في الموضوع نفسه، وجعلها أكثر قربًا من متغيرات عالمنا، وأكثر بعدًا عن لغة القطع والإطلاق والإقصاء.

تساعدنا المؤشرات التي رسمنا في الفقرات السابقة، على الاقتراب من مطلب التفكير في إعادة بناء بعض مقدمات الأنوار وقيمها، في ضوء التحولات الجارية في عالمنا. لقد انطلقنا في هذا العمل من إقرارنا، بحاجة ثقافتنا ومجتمعنا لروح الأنوار، ولمختلف القيم التي ترتبط بالحداثة والتحديث، من أجل مزيد من ترسيخها في قلب التحولات الجارية في عالمنا. ولا يتعلق الأمر هنا بفلسفة الأنوار في أبعادها المرتبطة بزمن التأسيس، التي تبلورت إرهاصاتها الأولى في عصر النهضة في القرن السادس عشر، ثم تطورت بعد ذلك. بل إن قيم الأنوار اتسعت وتطورت في سياق الانتقادات التي طالت مبادئها وقيمها بعد ذلك، وطيلة القرنين الماضيين وإلى يومنا هذا، الأمر الذي منح مشروعها امتدادات، ووضع أمام بعض مبادئها تحفظات ومراجعات، إلا أن كل ما جرى مكَّن المشروع الأنواري من مواصلة رسم حدوده وإعادة رسمها، كما مكَّنه من مواصلة مساعي تطوير أفقه النظري، وَمَنَحَه تماسكًا وصلابة.

- 2 -

نسي كثير من الذين يتحدثون اليوم عن إخفاق مشروع التّنوير في مجتمعاتنا، أن جهود رواد الإصلاح والنهضة، الذين عملوا على غرس قيم العقل والنقد والحريّة والتقدم في ثقافتنا، لم تكن نظريّة خالصة، بل إنها كانت وما تزال منذ بداياتها الأولى وإلى يومنا هذا، أشبه ما تكون بعمليّة في المواجهة، مواجهةَ سقفٍ في النظر واللغة، ومواجهة تاريخ من الاستبداد، وتاريخ من الهيمنة النصيّة. لهذا اختلطت وتداخلت مهامهم، وذلك رغم كل الجهود المضنيّة التي بذلوا، في باب دعم وتعزيز منطق العقلانيّة ولغتها في ثقافتنا. ولعلهم نسوا أيضًا، أن التوجهات النظريّة الجديدة التي ترتبط بما نسميه عقلانيّة وعي الذات، العقلانيّة التاريخيّة والنقديّة، التي مافتئت تتّسع وتتطوَّر في فكرنا منذ الثلث الأخير من القرن الماضي، تعد في العمق مُحصلة لمختلف صور التمرين والتمرس، التي مارسها الجيل الأول والثاني من النهضويين العرب، منذ أواسط ونهايات القرن التاسع عشر، زمن بداية التفاعل المنتج مع روح الأزمنة الحديثة(70).

تحتاج المجتمعات العربيّة وهي تواصل تطلُّعها إلى بناء مجتمع عصري، إلى جبهة مسلحة بمبادئ الفكر المعاصر ومقدماته، وفي قلب هذه المبادئ مكاسب فلسفة الأنوار، جبهة قادرة على إعادة بناء المجتمع والفكر والتاريخ مجددًا. ونحن نعتقد أنّه لن تكون هناك مردوديّة، لتحركات الأمس واليوم، إذا لم تصنع الحدود التي تُرَكِّب القطائع المطلوبة وبلا تردُّدٍ ولا مخاتلة، مع مختلف أوجه التقليد والاستبداد ومظاهرهما في مجتمعنا، الأمر الذي يفيد أنّ معاركنا من أجل الأنوار والتّنوير ما تزال متواصلة(71).

نتبين حاجة مجتمعنا إلى الجبهة المذكورة في صور تزايد مظاهر التطرف في مجتمعاتنا، وقد تشابكت جملة من العوامل في توليدها واستمرارها. ولهذا السبب نتصوَّر أن معارك مواجهتها ينبغي أن تكون متنوعة بتنوُّع الأدوار التي تمارس في واقعنا. وكلما ازداد عنف هذه الحركات في محيطنا الاجتماعي والسياسي، ازدادت الحاجة إلى تطوير آليات المواجهة، بهدف توسيع مساحات التّنوير والانفتاح في ثقافتنا ومجتمعنا، الأمر الذي يقلص من أدوار الفكر الوثوقي، وأدوار الفقهاء الذين يتمتعون في حاضرنا بامتيازات الكهنوت، امتيازات مانحي صكوك الغفران، كما يقلِّص من مردوديّة أدعيّة وكرامات الأولياء، ويكشف في الآن نفسه، أقنعة المشرفين على إعداد فتاوى التكفير والجهاد.

يطرح مشكل تنامي إسلام التطرف في واقعنا مطلب المواجهة بالتّنوير، لكي لا تُحَوِّلَ جماعاتٌ معينة التجربة الروحيّة في التاريخ الإسلامي إلى تجربة متحجرة مغلقة، ونظام نصي مُعلَّق وجامد. إن التجربة الروحيّة في الإسلام كما نتصوَّر، تتجاوز الأحكام النمطيّة المحفوظة في تراث متعدِّد الروافد، تراث لا يعدو أن يكون جزءًا من تاريخ لم ينته بعد. لهذا السبب نرى أن عودة المحفوظات التقليديّة، بالصورة التي تتمظهر بها اليوم في ثقافتنا وفي مجالنا التربوي والسياسي، سببه عدم قدرتنا على إنجاز ما يسعف بتطوير نظرتنا للدين والثقافة والسياسة في مجتمعاتنا. إن فشل مشاريع الإصلاح الديني والإصلاح التربوي والثقافي، وبروز أشكال من التأسلم المختلطة، من قَبِيل إسلام الأنظمة السياسيّة السائدة في أغلب الأقطار العربيّة، والإسلام الشعبي الطقوسي والمظهري، وإسلام الزوايا، يضعنا أمام شبكة معقَّدة من التصورات والعقائد والممارسات، شبكة تحتاج إلى كثير من الفرز والضبط والترتيب، لرسم ملامح التقارب والتباعد والاختلاط الحاصل في بنياتها، وهذه مسؤوليّة تيارات فكر التّنوير في ثقافتنا المعاصرة، مسؤوليّة التشخيص والمواجهة بالنقد.

لا تنفصل معارك المجال الثقافي والديني، الحاصلة في مجتمعاتنا اليوم، عن مشروع ترسيخ مقدمات الأنوار وقيمها في فكرنا. وضمن هذا السياق، نؤكد أن انتشار دعاوى تيارات التطرُّف، ودعاوى تيارات التكفير والعنف في ثقافتنا ومجتمعنا، يمنحنا مناسبة تاريخيّة جديدة، لإطلاق مجابهات نقديّة يكون بإمكانها أن تَكشف وتُبرز فقر ومحدوديّة وغُرْبَة التصورات المتصلة بهذه التيارات، عن مختلف التطلعات التي نرسم لمستقبلنا، الأمر الذي يتيح لنا بناء الفكر المبدع، أي إنشاء خيارات مطابقة لتطلعاتنا في النهضة والتقدم.

نتصور أنه لا يمكِن تحقيق التغيير السياسي في المجتمعات العربيّة، دون حصول تغيير ثقافي يُمَكِّنُه من الروافع التي تجعله أمرًا ممكن الحصول. إن معركة إبداع التّنوير المكافئ لتطلعات مجتمعنا، تزداد أهميّة وراهنيّة، كلما فكرنا في التغيير وشروطه. يعود السبب في ذلك، إلى استمرار هيمنة التقليد على فضاءات السياسة والثقافة في مجتمعنا، وتصاعُد حضور التيارات التي تنسب نفسها إلى حركة الإسلام السياسي، وهي الحركات التي وسَّعَت صور حضور تصوُّرات أخرى للإسلام في مجتمعنا، وذلك بجانب الصور المواكبة لتاريخه.

وهنا لابد من التوضيح بأن قيم الإسلام، كما تبلورت في التاريخ، لا علاقة بينها وبين ما هو شائع عنها اليوم من أفكار، أقل ما يمكن أن توصف به هو غربتها عن التاريخ وعن الإنسان. فالإسلام في تاريخه النصي والحدثي أكثر من الأحكام والفتاوى المحافظة المُعَمَّمَة اليوم، بواسطة أدوات وقنوات الفضاء الافتراضي، إنه في روحه العامة عبارة عن جهد في النظر وفي التاريخ مشدود إلى المطلق، ولهذا السبب نحن لا نتصوَّر الإسلام من دون اجتهاد ومن دون تجديد(72).

- 3 -

ترتبط حاجتنا إلى التّنوير بأسئلة واقعنا، كما ترتبط بسؤال الحداثة في فكرنا وفي كيفيات تعاملنا مع مبادئها الكبرى، ومع مختلف التجارب التي أبدعت في التاريخ. وإذا ما كنا نعرف بأن المبدأ الأكبر الذي وجه فكر الأنوار، يتمثل في الدفاع عن عدم قصور الإنسان، والسعي لإبراز قدرته على تعقل ذاته ومصيره، بهدف فك مغالق ومجاهل الكون والحياة، فإنه لا يمكن لأحد أن يجادل في أهميّة هذا المبدأ، الذي يمنح العقل البشري مكان الصدارة في العالم، ويمنح الإنسان مسؤوليّة صناعة حاضره ومستقبله. ولعلنا نزداد تشبثًا بهذا المبدأ، عندما نعاين في حاضرنا كثيرًا من مظاهر تحقير الإنسان والتنكيل به، فندرك بصورة أفضل، أهميّة الانخراط في تعزيز قيم التّنوير المفتوحة والمتحوِّلة في حياتنا. وندرك في الآن نفسه، أن حاجتنا اليوم لهذه القيم، لا تمليها شروط خارجيّة، ولا تمليها إرادةُ نقلٍ تكتفي بنسخ الجاهز من النماذج التّنويريّة كما تبلورت في التاريخ، بل إن حاجتنا الفعليّة لهذه القيم، تحددها بكثير من القوة شروط حياتنا الواقعيّة والفعليّة، حيث يصبح توسيع مجال العقل والنقد، مناسبة للمساهمة في عمليات إعادة بناء القيم والمبادئ، التي تتيح لنا الخروج من مآزق القراءات المحافظة والمغلقة لتاريخنا وتراثنا، وهو تاريخ نعتقد أننا لم نتمكن بعد من تشريحه ونقده، تمهيدًا لإعادة بنائه بتجاوزه(73).

وإذا كنا نسلم بأن فكر الأنوار دَاخِلَ المشروع الحداثي، لا يمتلك تصورات دقيقة وواضحة في مسألة الموقف من الدين والعقائد، ومختلف ما يمكن إدراجه في باب الروحانيات، وأن كثيرًا من الأدبيات المرتبطة به، تستوعب تصورات عامة وميكانيكيّة، وأن النصوص الرديكاليّة في سِجِلِّه رَكَّبَت بدورها تصورات قطعيّة مماثلة في فهمها لكثير من معطيات اللاهوت، حيث ظل منطق الخلاص متحكمًا في الرؤيتين معًا، سواء اتخذ صفة الهرطقة المُعْلَنة، أو ركَنَ إلى مسلمات العقائد النصيّة الآمرة والمغلقة، الأمر الذي يدعونا إلى مزيد من النظر في الموضوع، وذلك في ضوء التحوُّلات المعرفيّة والْقِيَّمِيّة الجارية اليوم في عالمنا.

ساهمت الانفجارات التي حصلت مؤخرًا في مجتمعاتنا، في التعجيل بإعلان الدفاع عن جملة من المفاهيم المرتبطة بالعلمانيّة، من قبيل انتعاش الحديث عن مفردة ضمير في ثقافتنا السياسيّة، بحكم أنها تُرَكِّب ما يسمح بتجاوز التمييز بين المواطنين على أساس الدين والمعتقد، وذلك اعتمادًا على مبدأ المواطَنة الذي يقرُّ بالمساواة. ولا بد من التوضيح هنا، أن التلويح اليوم بالذات بمفردة الضمير، والمطالبة بضرورة استيعاب منطوقها وروحها في دساتيرنا وسجالاتنا السياسيّة، يحصل داخل مجتمعاتنا في سياق تاريخي، مرتبط بتحولات جارفةٍ في القيم والثقافات. وإذا كنا نعرف أن المفردة تزكّي خيارًا فلسفيًّا معيّنًا، في النظر إلى الإنسان والتاريخ والمجال السياسي، سندرك أهميّة الاستعانة بها في سياق التحولات الجارية اليوم في مجتمعاتنا.

عود على بدء

حرصنا في هذا العمل على إبراز السياقات والإشكالات التاريخيّة والنظريّة، المرتبطة بتبلور مشروع الأنوار في أوروبا القرن الثامن عشر، وذلك لوعينا بكون جوانب هامة من مقدماته النظريّة وحزمة هامة أيضًا من القيم التي بناها ودافع عنها، ترتبط بمآزق اللاهوت والمؤسسات الراعيّة له في عالم بدأ يتغير. وعند انتقالنا للنظر في الانتقادات التي وضعت حدودًا للتنوير وخطاباته، انتبهنا إلى صلتها بمجمل التحولات المؤسِّسة لأفق النقد الجديد في تاريخ الفلسفة، سواء تحولات التاريخ والسياسة أو تحولات الفكر والمجتمع المواكِب لها.

إذا كان صاحب نَص الدين في حدود مجرد العقل، قد أبرز أن المؤسسات الدينيّة تُعَدُّ بمثابة بُؤرٍ للاستبداد الروحي وأنها تساهم في تدمير الحرية(74)، فنحن مطالبون اليوم في ضوء التحولات الجديدة، التي لحقت الدين طيلة القرنين الماضيين، لمواصلة التفكير في حريّة العقيدة وفي الدين المدني، دون إغفال التفكير أيضًا، في المؤسسات اللامرئيّة وفي صور العَوْدات الجديدة، الراميّة إلى استحضار مُقَدَّس وتبرير استمراريته في حاضرنا، بصور وأشكال لا حصر لها.

يتجه اليوم جيل من الأنواريين الجدد، وقد استعانوا بالمكاسب الجديدة لدروس الفلسفة والاجتماع، إلى قَبُول فكرةِ حيويّة الدين في المجال العمومي. كما اتجه آخرون للدعوة إلى ضرورة تطوير منظومة الأنوار، ومواصلة التفكير والبحث في الحريّة والعدالة بأدوات عقلانيّة، الأمر الذي نتصوَّر أنه يساهم بقوة في تطوير عقلانيّة الأنوار ومنظومتها القِيَمِيَّة. ويمكن أن نُدرج ضمن هذا السياق، خيارات هابرماس ورولز حيث شَكَّلت عقلانيّة هابرماس التواصليّة بديلًا للعقلانيّة الأداتيّة، التي تعرضت لكثير من النقد في القرنين الأخيرين(75).

تسمح لنا عودتنا في نهاية هذا العمل، إلى التذكير بمواقف الأنوار من الدين، مواقف كل من فولتير وروسو وكانط وهابرماس، إلى التأكيد على أهميّة مواصلة التفكير في الأنوار في الحاضر الكوني، مع ضرورة التمييز بين مطلب الدين المدني ومطلب تحرير الدين في ثقافتنا ومجتمعنا(76).

نعتقد أن إعادة التفكير مجددًا في العلمانيّة وأسئلتها في الحاضر العربي، هو موضوع يتمتع براهنيّة ويعكس جوانب من أوجُه الصراع القائم في مشهدنا السياسي. نقترب منه ونفكر فيه، انطلاقًا من المآثر التي رتَّب في مجتمعات أخرى قبلنا، يدفعنا إلى التخلص من النظرة الاختزاليّة والإسقاطيّة السائدتين في هذا المجال. ولن يحصل ذلك دون سند تاريخي، يعي جيدًا مختلف لوينات المفهوم، تَعَدُّدِيَّته ومختلف الصور التي واكبت عمليات تشكُّله في التاريخ الحديث والمعاصر، مع عدم إغفال مسألة النظر في أنماط علاقته بموضوع الدولة وموضوع الدين. ولا يتعلق الأمر هنا بالدولة والدين في صورهما المجردة والمتعاليّة، بل بنمط الدولة الوطنيّة الحديثة، وهي تنشأ محاولة ضبط المجال العام وتدبير مقتضياته. كما يتعلق بالدين وقد اتخذ في التاريخ صُورَةَ مُؤَسَّسات حاضنة وراعيّة لكثير من الطقوس والسلوكات، إنه يتعلق بالكنيسة ومراتبها وأدوارها التاريخيّة، كما يشير أيضًا إلى كل ما ترتَّب عن أدوارها في المجتمع والثقافة، بما في ذلك الحروب الدينيّة، وتجارب الإصلاح الديني وما تولَّد عنها من إرهاصات صانعة لملامح مجتمع جديد.

ويمكن أن نضيف إلى كل ما سبق، أن مسألة العلمانيّة تتعلق في تجارب أخرى، بمعطيات ومؤسسات مختلفة عن مؤسسات المسيحيّة واليهوديّة في التاريخ. نحن نشير هنا إلى واقع الحال في مجتمعاتنا، إننا نشير إلى مؤسسة المسجد ومجلس العلماء وهيأة الإفتاء، كما أن نشير إلى الزوايا والطرق الصوفيّة وأضرحة الصالحين، وجمعيات الإحسان الخيريّة، كما نشير إلى القائمين على كل ما ذكرنا، والمدبِّرين لصناديقه ومواسمه. كما يمكن أن نذكر صراعات المذاهب والتأويلات، وكلها قضايا تمكِّننا من إعادة التفكير في التّنوير انطلاقًا من قضايا ومؤسسات وتاريخ، رغم أن الأمر يرتبط في النهاية بالجذور المشتركة بين كل الأديان، وهي جذور وأصول نحرص على إخفائها والسكوت عنها، لنمنح عقيدتنا تميزًا يبعدها عن ديانات التوحيد. إن استحضار المشترك في ديانات التوحيد والكتاب، يساهم في مواجهة ومحاصرة انتقادات ومواقف الذين ما زالوا يرون في كل ما حاولنا تشخيصه وإبرازه من معطيات واقعيّة ونظريّة، جملة من المعطيات الوافدة، التي تخص الآخرين وحدهم، وذلك رغم محايثتها لتاريخنا واستمرار حضور تجلياتها في حاضرنا.

قائمة المراجع

الأفغاني، جمال الدين. الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني. تحقيق محمد عمارة. القاهرة: المؤسسة المصريّة العامة للتأليف والنشر، 1968.

أنطوان، فرح. ابن رشد وفلسفته. بيروت: دار الطليعة، 1981.

بشارة، عزمي. الدين والعلمانيّة في سياق تاريخي. الجزء الثاني/ المجلد الأول. العلمانيّة والعلمنة: الصيرورة الفكرية. الدوحة، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، 2015.

الجابري، محمد عابد. تكوين العقل العربي.

جعيط، هشام. أزمة الثقافة الإسلامية. بيروت: دار الطليعة، 2000.

جعيط، هشام. الوحي والقرآن والنبوة. في السيرة النبويّة 1. بيروت: دار الطليعة، 1999.

جعيط، هشام. تاريخيّة الدعوة المحمديّة في مكة. في السيرة النبويّة 2. بيروت: دار الطليعة، 2007.

جعيط، هشام. مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام. في السيرة النبويّة 3. بيروت: دار الطليعة، 2015.

روسو، جان - جاك. دين الفطرة أو عقيدة القس من جبل السافوا. ترجمة عبد الله العروي. الدارالبيضاء: المركز الثقافي العربي، 2012.

السيد، لطفي. المنتخبات. الجزء الأول. القاهرة: دار النشر الحديث، 1937.

السيد، لطفي. المنتخبات. الجزء الثاني. القاهرة: دار النشر الحديث، 1946.

عبد الرحمن، طه. بؤس الدهرانية. بيروت: المؤسسة العربيّة للفكر والإبداع، 2014.

عبد الرحمن، طه. أصول النظر الإئتماني. دين الحياء: من الفقه الإئتماري إلى الفقه الإئتماني 1. بيروت: المؤسسة العربيّة للفكر والإبداع، 2017.

عبد الرحمن، طه. التحديات الأخلاقيّة لثورة الاتصال. دين الحياء: من الفقه الإئتماري إلى الفقه الإئتماني 2. بيروت: المؤسسة العربيّة للفكر والإبداع، 2017.

عبد الرحمن، طه. روح الحجاب. دين الحياء: من الفقه الإئتماري إلى الفقه الإئتماني 3. بيروت: المؤسسة العربيّة للفكر والإبداع، 2017.

عبد الرحمن، طه. سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية. بيروت: المركز الثقافي العربي، 2000.

عبد الرحمن، طه. شرود ما بعد الدهرانية. بيروت: المؤسسة العربيّة للفكر والإبداع، 2015.

عبد اللطيف، كمال. «تحديات توظيف المقدس في الراهن العربي: نحو تحرير الدين». في: رجاء بن سلامة (محرر). المقدس وتوظيفه. تونس: المنشورات الجامعية، 2015.

عبد اللطيف، كمال. «سؤال السياسة في في فكر الجابري»، في: أنطوان سيف وآخرون. العقلانيّة والنهضة في مشروع محمد عابد الجابري. بحوث ومناقشات الندوة الفكريّة التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2012.

عبد اللطيف، كمال. أسئلة الحداثة في الفكر العربي: من إدراك الفارق إلى وعي الذات. بيروت: الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، 2009.

عبد اللطيف، كمال. أسئلة الفكر الفلسفي في المغرب. بيروت: المركز الثقافي العربي، 2002.

عبد اللطيف، كمال. أسئلة النهضة العربية: التاريخ، الحداثة، التواصل. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2003.

عبد اللطيف، كمال. التأويل والمفارقة: نحو تأصيل فلسفي للنظر السياسي العربي. بيروت: المركز الثقافي العربي، 1987.

عبد اللطيف، كمال. التراث والنهضة. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2004.

عبد اللطيف، كمال. الثورات العربية: تحديات جديدة ومعارك مرتقبة. الرباط: منشورات كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالرباط، 2013.

عبد اللطيف، كمال. العرب والحداثة السياسية. بيروت: دار الطليعة، 1997.

عبد اللطيف، كمال. درس العروي في الدفاع عن الحداثة والتاريخ. الرباط: منشورات كليّة الآداب والعلوم الإنسانية، 2014.

عبد اللطيف، كمال. سلامة موسى وإشكاليّة النهضة. بيروت: دار الفارابي، 1982.

عبد اللطيف، كمال. في الثقافة والسياسة وما بينهما. بيروت: منتدى المعارف، 2020.

عبد اللطيف، كمال. قراءات في الفلسفة العربيّة المعاصرة. بيروت: دار الطليعة، 1994.

عبد اللطيف، كمال. محمد الجابري: المواءمة بين التراث والحداثة. الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016.

عبد اللطيف، كمال. نقد العقل أم عقل التوافق؟. دمشق: دار الحوار، 2002.

العروي، عبد الله. السنة والإصلاح. بيروت: المركز الثقافي العربي، 2008.

العروي، عبد الله. ديوان السياسة. بيروت: المركز الثقافي العربي، 2009.

Arkoun, Mohammed. “Positivisme et tradition dans une perspective islamique: le cas du kémalisme”. Diogène. no 127 (July-September 1984).

Attali, Jacques. Histoire de la modernité: comment l’humanité pense son avenir. Paris: Robert Laffont, 2013.

Cassirer, Ernst. La philosophie des lumières. Paris: Fayard, 1966.

Castells, Manuel. Fin de millènaire. L’ère de L’information 3. Paris: Fayard, 1999.

Castells, Manuel. La société en réseaux. L’ère de L’information 1. Paris: Fayard, 1998.

Castells, Manuel. Le peuvoir de l’identité. L’ère de L’information 2. Paris: Fayard, 1999.

Djaït, Hichem. L’Europe et l’Islam. Paris: seuil: 1978.

Djaït, Hichem. La personnalité et le devenir Arabo-Islamiques. Paris: Seuil, 1974.

Foucault, Michel. “Qu’est-ce que les Lumières ?”. Le magazine littéraire. no. 309 (avril 1993), p. 61-73.

Horkheimer, Max & Theodor W. Adorno. La dialectique de la raison. Paris, Gallimard, 1983.

Horkheimer, Max. Eclipse de la raison. Paris: Payot, 1974.

Kant, Emmanuel. Critique de la faculté de juger suivi de idée d’une histoire universelle au point de vue cosmopolitique, et de Réponse à la question : Qu’est-ce que les Lumières?. Paris: Gallimard, 1985.

Kant, Immanuel. La religion dans les limites de la simple raison. Jean Gibelin (trad.). 4ème éd. Paris: Vrin, 1968.

Laroui, Abdallah. La crise de intellectuels arabes: Traditionnalisme ou historicisme? (Paris: F. Maspero, 1974), p. 115.

Marcuse, Herbert. L’homme unidimensionnel: Essai sur l’idéologie de la société industrielle avancée. Paris: Les Ed. de Minuit, 1971.

Mohammed, Arkoun. Pour une critique de la raison islamique. Paris, Maisonneuve et Larose, 1984.

Raabe, Paul & Wilheim Schmidt-Biggemann. Les lumières en Allemagne. Bonn: Hohwacht, 1979.

Renaut, Alain (ed.). Les critiques de la modernité politique. Histoire de la philosophie politique. vol. 4. Paris: Calmann-Levy, 1999.

Renaut, Alain (ed.). Les philosophies politiques contemporaines. Histoire de la philosophie politique. vol. 5. Paris: Calmann-Levy, 1999.

Renaut, Alain (ed.). Lumieres et romantisme. Histoire de la philosophie politique, vol. 3. Paris: Calmann-Levy, 1999.

Renaut, Alain (ed.). Naissances de la modernité. Histoire de la philosophie politique. vol. 2. Paris: Calmann-Levy, 1999.

Rousseau, Jean-Jacques. Émile ou de l’éducation. Paris: Garnier, 1961 [1762].


1 ترد أسماء بعض فلاسفة الأنوار في أعمال الطهطاوري وخير الدين التونسي، ويمكن مراجعة الأبحاث التي قدمنا عن كل منهما لمعرفة سياقات الورود في كتابنا التأويل والمفارقة، يُنظر: كمال عبد اللطيف، التأويل والمفارقة: نحو تأصيل فلسفي للنظر السياسي العربي (بيروت: المركز الثقافي العربي، 1987)، ص 57.

2 جعيط، أزمة الثقافة الإسلامية (بيروت: دار الطليعة، 2000)، ص 138-139.

3 عبد اللطيف، التأويل والمفارقة، ص 27-49.

4 كمال عبد اللطيف، أسئلة الحداثة في الفكر العربي: من إدراك الفارق إلى وعي الذات (بيروت: الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، 2009)، ص 13-50.

5 المرجع نفسه، ص 51-99.

6 المرجع نفسه، ص 55.

7 المرجع نفسه، ص 77.

8 الجامعة، مجلة شهريّة أنشأها فرح أنطون في الإسكندريّة سنة 1897، وقد صدرت لمدة سبع سنوات.

9 لطفي السيد، المنتخبات، ج 1 (القاهرة: دار النشر الحديث، 1937)، ج 2 (القاهرة: دار النشر الحديث، 1946).

10 عبد اللطيف، أسئلة الحداثة في الفكر العربي، ص 13-50.

11 يقول لطفي السيد: «ليس في استطاعة أحد أن يسلُب أحدًا حريته قبل أن يسلبه روحه، وليس لامرئ أن ينزل عن حريته لغيره ما دام لا حَقَّ له أن ينزل عن حياته التي وَهَبَ الله له، والتي لا يأخذها إلا هو»، يُنظر: السيد، المنتخبات، ج 1، ص 297؛ ويمكن مراجعة بحثنا «من الحريات إلى الحرية»، ضمن كتاب: أسئلة الحداثة في الفكر العربي، ص 141-168.

12 يُنظر كتاب فرح أنطون بعنوان ابن رشد وفلسفته، وهو يتضمن في ملحق له المناظرة التي حصلت بين فرح أنطون ومحمد عبده في موضوع الاضطهاد في الإسلام والنصرانية: فرح أنطون، ابن رشد وفلسفته (بيروت: دار الطليعة، 1981)، ص 178.

13 يورد فرح أنطون مبررات الفصل بين السلطتين الدينيّة والدنيويّة في حواره مع محمد عبده، يُنظر: أنطوان، ابن رشد وفلسفته، ص 144-150.

14 كمال عبد اللطيف، سلامة موسى وإشكاليّة النهضة (بيروت: دار الفارابي، 1982)، ص 115-172.

15 جعيط، أزمة الثقافة الإسلامية، ص 135-149.

16 Alain Renaut (ed.), Naissances de la modernité, Histoire de la philosophie politique, vol. 2 (Paris: Calmann-Levy, 1999), p. 205-280.

17 جعيط، أزمة الثقافة الإسلامية، ص 140.

18 كمال عبد اللطيف، في الثقافة والسياسة وما بينهما (بيروت: منتدى المعارف، 2020)، ص 78-81.

19 عبد اللطيف، أسئلة النهضة العربية، ص 83-98.

20 عبد اللطيف، أسئلة الحداثة في الفكر العربي، ص 51-98.

21 Mohammed Arkoun, “Positivisme et tradition dans une perspective islamique: le kémalisme”, Diogène, no 127 (1984), p. 95.

22 كمال عبد اللطيف، درس العروي في الدفاع عن الحداثة والتاريخ (الرباط: منشورات كليّة الآداب والعلوم الإنسانية، 2014)، ص 35-48.

23 أصدر العروي كُتبه عن المفاهيم الإيديولوجية، والحرية، والدولة والتاريخ، والعقل خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، ما بين 1980-1996. يُنظر: عبد اللطيف، درس العروي، ص 15-34.

24 عبد الله العروي، السنة والإصلاح (بيروت: المركز الثقافي العربي، 2008)؛ عبد الله العروي، ديوان السياسة (بيروت: المركز الثقافي العربي، 2009).

25 يُنظر مقدمة ترجمة عبد الله العروي لنص روسو، في: جان - جاك روسو، دين الفطرة أو عقيدة القس من جبل السافوا، ترجمة عبد الله العروي (الدارالبيضاء: المركز الثقافي العربي، 2012)، ص 17-21.

26 عبد اللطيف، درس العروي، ص 59-70.

27 المرجع نفسه، ص 35-48.

28 المرجع نفسه، ص 49-60.

29 يُنظر مقدمة ترجمة عبد الله العروي لنص روسو، في: جان-جاك روسو، دين الفطرة، ص 6-9.

30 عبد اللطيف، درس العروي، ص 62-67.

31 عبد اللطيف، قراءات في الفلسفة العربيّة المعاصرة، ص 80-90.

32 عبد اللطيف، أسئلة الحداثة في الفكر العربي، ص 83-98.

33 المرجع نفسه.

34 يقول الجابري: «مشروعنا في نقد العقل العربي هادف، فنحن لا نمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرُّر من كل ما هو مميت أو متخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي، والهدف: فسح المجال للحياة كي تستأنف فينا دورتها، وتعيد فينا زرعها»، يُنظر: محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، نقد العقل العربي 1 (بيروت: دار الطليعة، 1984)، ص 7-8؛

يقول محمد أركون «أتمنى أن تستقبل هذه الأبحاث كنوع من الحتّ على البحث المتحرر، البحث الذي يقارب قضايا منسيّة من قِبل البعض، المحمَّلة بكثير من الهلوسة من قِبل آخرين، إلا أنها قضايا هامة ومثيرة وقابلة للجدل»، يُنظر:

Arkoun Mohammed, Pour une critique de la raison islamique (Paris, Maisonneuve et Larose, 1984), p. 9.

35 كمال عبد اللطيف، «سؤال السياسة في في فكر الجابري»، في: أنطوان سيف وآخرون، العقلانيّة والنهضة في مشروع محمد عابد الجابري. بحوث ومناقشات الندوة الفكريّة التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربيّة (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2012)، ص 235-266.

36 Arkoun, “Positivisme et tradition…”, p. 95;

عبد اللطيف، التأويل والمفارقة، ص 98-107

37 أصدرنا كتابًا عن الجابري بعنوان نقد العقل أم عقل التوافق؟ (دمشق: دار الحوار، 2002)؛ كما أصدرنا عام 2014 كتابًا عن عبد الله العروي، عنوانه درس العروي في الدفاع عن الحداثة والتاريخ؛ وأشرفنا على إعداد كتابين جماعيين عن الجابري، صدر الأول بعنوان التراث والنهضة (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2004)؛ وصدر الثاني بعنوان محمد الجابري: المواءمة بين التراث والحداثة (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016).

38 Djait, L’Europe et l’Islam, p. 107-148.

39 Ibid.

40 جعيط، أزمة الثقافة الإسلامية، ص 5-18.

41 ثلاثيّة هشام جعيط في السيرة النبوية، يُنظر: جعيط، الوحي والقرآن والنبوة (بيروت: دار الطليعة، 1999)؛ تاريخيّة الدعوة المحمديّة (بيروت: دار الطليعة، 2007)؛ مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام (بيروت: دار الطليعة، 2015).

42 جعيط، الوحي والقرآن والنبوة، ص 8.

43 Djait, L’Europe et l’Islam, p. 112.

44 يقول هشام جعيط: «ليس هناك حداثة غربيّة وحداثة إسلاميّة وأخرى صينيّة وأخرى هنديّة أو إفريقية، فهي واحدة في جميع أبعادها. أن يجري الكلام على الخصوصيات لدحض قيم الحداثة، فهذا نِفاق كبير وتضليل عظيم»، يُنظر: جعيط، أزمة الثقافة الإسلامية، ص. 31.

45 Hichem Djaït, La personnalité et le devenir Arabo-Islamiques (Paris: Seuil, 1974), p. 27-31.

46 Ibid, p. 125-129.

47 Ibid, p. 151-171.

48 Horkheimer & Adorno, p 78-95;

بشارة، ص 582-590.

49 كمال عبد اللطيف، العرب والحداثة السياسيّة (بيروت: دار الطليعة، 1997)، ص 97-102.

50 عبد اللطيف، قراءات الفلسفة العربيّة المعاصرة، ص 39-74.

51 كمال عبد اللطيف، أسئلة الفكر الفلسفي في المغرب (بيروت: المركز الثقافي العربي، 2002)، ص 133-150.

52 طه عبد الرحمن، أصول النظر الإئتماني، دين الحياء: من الفقه الإئتماري إلى الفقه الإئتماني 1 (بيروت: المؤسسة العربيّة للفكر والإبداع، 2017).

53 طه عبد الرحمن، التحديات الأخلاقيّة لثورة الاتصال، دين الحياء: من الفقه الإئتماري إلى الفقه الإئتماني 2 (بيروت: المؤسسة العربيّة للفكر والإبداع، 2017).

54 طه عبد الرحمن، روح الحجاب، دين الحياء: من الفقه الإئتماري إلى الفقه الإئتماني 3 (بيروت: المؤسسة العربيّة للفكر والإبداع، 2017).

55 طه عبد الرحمن، بؤس الدهرانيّة (بيروت: المؤسسة العربيّة للفكر والإبداع، 2014)؛ طه عبد الرحمن، شرود ما بعد الدهرانيّة (بيروت: المؤسسة العربيّة للفكر والإبداع، 2015).

56 عبد الرحمن، أصول النظر الائتماني، ص 22-24.

57 عبد اللطيف، أسئلة الفكر الفلسفي في المغرب، ص 133-150.

58 عبد اللطيف، أسئلة الحداثة في الفكر العربي، ص 247-254.

59 Abdallah Laroui, La crise de intellectuels arabes: Traditionnalisme ou historicisme? (Paris: F. Maspero, 1974), p. 115.

60 عبد اللطيف، في الثقافة والسياسة وما بينهما، ص 34-39.

61 المرجع نفسه، ص 210-216.

62 كمال عبد اللطيف، الثورات العربية: تحديات جديدة ومعارك مرتقبة (الرباط: منشورات كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالرباط، 2013)، ص 49-58.

63 المرجع نفسه، ص 70-72.

64 عبد اللطيف، أسئلة الحداثة في الفكر العربي، ص 247-254.

65 ترسم الجهود الفكريّة لهشام جعيط لحظة متميزة بثرائها الفكري، وقدرتها على محاصرة المواقف القطعية، مقابل تشبثها بمنزع ريادي يمنحها المقدمات الضرورية، لبناء أوليات ومداخل جديدة في التّنوير العربي.

66 عبد اللطيف، أسئلة الحداثة، ص 13-50.

67 عبد اللطيف، في الثقافة والسياسة وما بينهما، ص 78-81.

68 Renaut, Les philosophies politiques contemporaines, p. 427-462.

69 Ibid.

70 عبد اللطيف، أسئلة النهضة العربية، ص 173-194.

71 تكشف المعارك السياسيّة التي انطلقت مؤخرًا في أمريكا وفي أوروبا في قضايا ترتبط بالعنصرية، أن مشروع كونيّة الأنوار يتواصل في العالم المعاصر، مثلما هو متواصل في عالمنا العربي منذ أزيد من قرنين.

72 عبد اللطيف، في الثقافة والسياسة وما بينهما، ص 87-91.

73 عبد اللطيف، أسئلة الحداثة في الفكر العربي، ص 13-50.

74 Immanuel Kant, La religion dans les limites de la simple raison, Jean Gibelin (trad.), 4ème éd. (Paris : Vrin, 1968), p. 9.

75 Renaut, Les philosophies politiques contemporaines, p. 143-148;

بشارة، ص 810.

76 كمال عبد اللطيف، «تحديات توظيف المقدس في الراهن العربي: نحو تحرير الدين»، في: رجاء بن سلامة (محرر)، المقدس وتوظيفه (تونس: المنشورات الجامعية، 2015)، ص 119-138.