دراسة المُقدَّس بوصفها أفقًا إنسانويًّا جديدًا

عن مقاربة ميرتشيا إليادي في تاريخ الأديان

ياسين اليحياوي*

doi:10.17879/mjiphs-2022-3905

كيف يُـمكن استعادة المعنى في حياتنا الراهنة؟ إنَّه السؤال المحوري الذي تتعرض له هذه الدراسة، مُوضحةً أنَّ إحدى سبل الإجابة تكمن في الإمكانات العدة للدراسة المعرفية للمُقدَّس في تغيير ذواتنا وفتح أفق إنسانويّ جديد، قادر ليس فقط على استعادة المعنى، بل أيضا على تجاوز مأزق العنف الدينيّ المتأسس على دعوى احتكار الحقيقة. أستند في هذه المُحاولة إلى ما قدَّمه مؤرخ الأديان ميرتشيا إليادي في دراسته للظاهر الدينيّة، سواء في علاقة المُقدَّس بالدُنيويّ، أو في مُحاولته الإجابة عن أزمة إنسان الحداثة؛ لاسيما أنَّ السعي إلى نزعة إنسيّة/ إنسانويّة جديدة، يُعد بمثابة العنصر الأساس الذي يُضفي الانسجام والتماسك على كل أعمال إليادي، بدءًا بمُحاولته النظريّة التي سعى من خلالها إلى دراسة الميثة والرمز وثنائية المُقدَّس/ الدُنيويّ؛ وانتهاء بأعماله الروائيّة والمسرحيّة التي عكستْ نظريّته في قالب قصصي. يُمكن إذن تحديد السؤال الإشكالي للورقة على النحو الآتي، كيف يُمكن لدراسة المُقدَّس بالمنهج الإليادي أن تفتح الأفق لإنسانويّة جديدة؟ وبُغية تقديم الإجابة، قُسِّمتْ الورقة إلى ثلاثة محاور، سيتطرَّق الأول إلى أزمة فقدان المعنى في الحداثة وهو الهاجس المركزي الذي تتمحور حوله العديد من أعمال إليادي؛ وسيتم التطرق في المحور الثاني إلى جدليّة المُقدَّس/ الدُنيويّ التي ميَّزت مُقاربته للظاهرة الدينيّة؛ أما المحور الأخير فسيتم تخصيصه للأفق الإنسانوي في دراسة المُقدَّس.

كلمات مفتاحية: ميرتشيا إليادي؛ مُقدَّس؛ دُنيويّ؛ إنسانويّة جديدة؛ تاريخ الأديان

* باحث بالمعهد العالي للدراسات الإسلاميّة Zentrum für Islamische Theologie بجامعة مونستر، ألمانيا.

** أتقدم بالشكر الجزيل للدكتور عبد العزيز لبيب على تعليقاته المفيدة على النسخة الأولى من هذه المقالة.

The study of the sacred as a humanistic horizon

On the Mircea Eliade’s approach in the History of Religions

Yassine Yahyaoui*

The aim of this research is to highlight the importance of the academic study of the sacred in the field of the history of religions, and its impact on opening a new humanistic horizon that allows to overcome the dilemma of religious violence. In this paper, I based on what the historian of religions Mircea Eliade presented in his study of the religious phenomenon, whether in the dialectic of the sacred and the profane, or in his attempt to answer the contemporary human crisis; especially since the quest for a new humanism is considered as the cornerstone that brings coherence to all of Eliade’s work. The problematic question of the paper can then be defined as follows: How can Eliade’s approach to the study of religions open the horizon for a new humanism?

Keywords: Mircea Eliade; Sacred; Profane; New Humanism; History of Religions

* Researcher at Centre for Islamic Theology at Münster University, Germany.

مدخل

تكمن أهميّة الإحالة على مُدونة المؤرخ والروائي الرومانيّ ميرتشيا إليادي1 Mercia Eliadeا(1907-1986) كمرجع لدراسة إشكاليّة هذه الورقة، نظرًا لكونه من الباحثين الأوائل في حقل تاريخ الأديان الذي أعاد التفكير في علاقة الدين والعلمانيّة وعلاقة المُقدَّس بالدُنيويّ، وهي القضايا التي مازالت مُحتفظة براهنيتها سواء في السياق الغربي أو العربيّ؛ خاصّة وأنَّ منهجه ونتائج أبحاثه تجاوزتْ المقاربة الوضعانيّة التي اقتحمت العديد من التخصصات في العلوم الاجتماعيّة من قبيل السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا والتاريخ. وقد كانت مدرسة دوركهايم نموذجًا لضبط العلاقة بين الدين والمُجتمع من مرجعيّة عقلانيّة وضعيّة؛ فتجلى من ثمَّ التجاوز الذي وضعه إليادي كسؤال مُؤرق للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة على حد سواء، وعن مدى قدرة النموذج العقلاني الوضعاني على استحواذ ضبط العلاقة بين الدين والمجتمع والدولة، بوصفه نموذجًا تفسيريًا وحيدًا. لقد رفض المقاربات التي سعت إلى تفسير الدين من منظورٍ غير دينيّ؛ كما اهتم بشكل خاص بميثات2 الأصول وكيف يتم إعادة تمثلها في الطقوس داخل ثنائيّة المُقدَّس/ العادي؛ وساهم أيضا في تطوير مورفولوجيا المُقدَّس التي سمحتْ له بتحديد الأشكال الأساسيّة التي يتجلى من خلالها. طور هذه النظريات خلال مسيرته الأكاديميّة في العديد من الكتابات، من قبيل أسطورة العود الأبدي3؛ المُقدَّس والعادي4؛ الشمانيّة والتقنيات القديمة للوُجد5؛ مصنف في تاريخ الأديان6 وغيرها.

لم يكتف إليادي بمجرد مساءلة المناهج الغربيّة في مقاربتها للدين -شأنه في ذلك شأن العديد من الباحثين في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي-، بل سعى من خلال انتاجه الفكري على مدار نصف قرن من الزمن إلى اقتراح إنسانويّة جديدة7، آمن بأنها سبيل لحل إشكالات الإنسان المُعاصر. ومع أواخر القرن العشرين أثبتتْ أبحاث إليادي نوعا من الصرامة المنهجيّة أمام الانتقادات العديدة المُوجهة لها، وأظهرتْ اتساقًا وقوة تأويليّة في تحليل الظاهرة الدينيّة، على الرغم من أنَّ إليادي لم يؤلف على مدار مسيرته الأكاديميّة أي كتاب يتطرق لطريقة اشتغاله على المُقدَّس. ولن يكون من المُجازفة القول إنَّ اسهاماته العديدة جعلت منه واحدًا من بين أهم مؤرخي الأديان المُعاصرين.

غير أنَّ الاهتمام بفكر إليادي لم يكن مُزامنا للفترة التي أصدر فيها مؤلفاته في تاريخ الأديان. إذ إلى حدود عام 1978 لم تشهد الساحة الأكاديميّة في فرنسا سجالًا بشأن مقاربته الحديثة8، على الرغم من أنَّ أغلب مؤلفاته، إلى حدود تلك الفترة، كُتبتْ في فرنسا وباللغة الفرنسيّة. وقد ظل انتاجه الفكري مُهمشًا من قبل المُتخصصين في الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا والتاريخ وغيرها من التخصصات، بل إن العديد منهم أبدوا توجسهم من أفكاره زعمًا أنَّها لا تقف على صرح علمي دقيق، رافضين نظرياته، بتهمة كونها مُجازفات مُغرقة في العموميّة9. ومع بداية التسعينيات أخذ النقد منحى آخر، حيث وُصفتْ مقاربة إليادي بـ«الدجل وتزييف العلم»10، ومحاولة تأويلها من خلال الرجوع إلى ماضيه السياسيّ والتواطؤ المفترض مع سياسات اليمين في رومانيّا11. على الجانب العلمي، فإنَّ جزءا من هذا النقد جاء من خلفيّة دوركايميّة تتبنى المُقاربة الوضعيّة في دراسة الميثة والمُقدَّس، وفي المقابل كان إليادي مُعترضًا على النظريّة الاختزاليّة الدوركايميّة12، بل كثيرا ما اعتبر نتائجها السوسيولوجيّة أكبر جناية على تاريخ الأديان ودراسة المُقدَّس13. كما يرجع جانب من هذا الصراع إلى طبيعة المُقاربة نفسها، فُرواد مدرسة دوركايم يُحاولون الفصل النهائي بين الذات والموضوع، جاعلين من المُقدَّس مرحلة جهل وطورًا من أطوار البشريّة، فتكون من ثمَّ دراسة الظاهرة مُقتصرة على الجانب الموضوعيّ الصارم؛ في المقابل يقترح إليادي مذهبًا إنسانويًّا جديدًا هو نتيجة لتفاعل الذاتيّ بالموضوعيّ، والروحي بالمعرفي في الآن معًا.

شهدتْ العقود الأخيرة مُنعطفا آخر في النقاش داخل حقل «تاريخ الأديان»، الذي يُعد جُزءًا من تحول نقدي مع انحصار المناهج الفينومينولوجيّة وهيمنة العلوم الاجتماعيّة، وهو تحول ثقافي أوسع نحو المقاربات ما بعد الحداثيّة14. يُمكن القول إنَّ مؤرخ الأديان جوناثان ز. سميث Jonathan Z. Smith (ت. 2017)15، زميل إليادي بجامعة شيكاكو، كان من أبرز الأسماء التي ميَّزتْ هذا المُنعطف16، حيث كانت القضيّة المركزيّة، داخل حقل «تاريخ الأديان»، هي كيفيّة التعامل مع المفهوم المُراوغ لـ«الدين» كفئة للتصنيف، وعن مدى علميّة الأسلوب الذي اعتمده إليادي في مقارنة الأديان. مع ذلك، لم يكن لهذا المُنعطف القدرة على التعامل مع القضايا ذات الأهميّة الأخلاقيّة، لذلك بقيت مُقاربة إليادي الأقرب إلى مُعالجة مُشكلة وجودنا التاريخيّ وعلاقتنا بالمُقدَّس

نزع القداسة وأزمة إنسان الحداثة

«بوسعنا القول إنَّ كل أزمة وجوديَّة تضع من جديد، موضع تساؤل، وفي الآن عينه، واقع العالم ووجود الإنسان في العالم»17

تبرز أزمة فقدان المعنى التي يعيشها الإنسان في زمن الحداثة، بوصفها إشكاليّة محوريّة عند إليادي، حاول من خلال مُساهماته أن يُقدم حلولا لها. قد يبدو اليوم أن الإجابات التي قدَّمها ليست ذات صلة بالإشكاليات الراهنة، لاسيما مع التطور التكنولوجي والعولمة وأثر ذلك على العديد من المفاهيم السياسيّة. غير أنَّ مقاربة إليادي، إذا ما وُضعتْ في سياقها التاريخيّ، تُظهر مدى فرادتها بوصفها مُساهمة قُدِّمتْ من داخل «تاريخ الأديان» كحقل أكاديمي.

يشترك إليادي مع العديد من فلاسفة ومؤرخي جيله الذين عاصروا أهوال الحرب العالميّة الثانيّة، في نظرتهم الحذرة من سيرورة التقدم18. ولم يكن هذا الموقف، نابعًا فقط من مُشاهدة آثار الحرب بعد أن أخفق التقدم في تحقيق وعوده؛ فقد سبق لعلماء من قَبل أن استشرفوا ما قد تؤول إليه الحداثة، ومن أبرزهم ماكس فيبر Max Weberا(ت. 1920) الذي استخدم عبارة «نزع السحر عن العالم» Entzauberung der Weltا19، لوصف عالمٍ مؤسسٍ على النظرة العلميّة وليس النظرة الدينيّة، ومُرتبط بحضور الموقف العقلاني في فهم الطبيعة وقوانينها. لظاهرة نزع السحر عن العالم، بحسب فيبر جانب إيجابي يتمثل في كونه مُحفزًا للعقلانيّة ومخرجا للإنسان من عالم اللامعقول والخرافة؛ أما الجانب السلبيّ فيتجلى في كونه يمثل قطيعة مع التناسق والانسجام الذي بلوره الإنسان في علاقته مع الطبيعة.

تكمن فرادة مقاربة إليادي في مُحاجته بأنَّ التطور الذي شهدته المُجتمعات الغربيّة، وهيمنة مفهوم التقدم الذي ميَّز مرحلة الحداثة، أدّى إلى عمليّة متواصلة ومُستمرّة لنزع القداسة Désacralisation عن العالم؛ بإقصاء البعد المُقدَّس والمُتعالي Transcendante وتجريد الرموز والميثات من قيمتها الرمزيّة، مما أسفر عن فُقدان الإنسان للمعنى من الوجود20، وانقطاع اتصاله بالكون Cosmos بعد إعلان موت الإله21.

تعليقًا على هذه الحُجة، بالإمكان القول أنَّ التقدم الذي شهدته القرون الثلاثة الأخيرة ساهم في تحسين ظروفنا المعيشيّة، وإنَّنا مدينون إلى الحداثة على الاختراعات التي ساهمتْ، بشكل أو بآخر، في ارتفاع متوسط عمر الإنسان وتطور نظام الصحة والتعليم وحقوق الإنسان وتراجع في العنف والصراعات والحروب. غير أنَّ هذا الاعتراف لا يمنع من ضرورة نقد الحداثة، بعد أن أوشك التقدم غير الرشيد على تدمير كوكبنا22، وجعلت الإنسان يشك في معنى وجوده وأفعاله23. يعتبر إليادي أنَّ هذا التيه -الشك في معنى الوجود-، جاء نتيجة تَغيُّر مفهوم الزمن عما كان سائدًا في تقاليد ما قبل الحداثة؛ لاسيما بعد هيمنة النزعة التاريخانيّة مع الحداثة24، التي يعتبرها نوعًا من هروب الإنسان من الماضي25. إنَّ هذه النزعة التاريخانيّة ركزت على التاريخ الخاص للإنسان وأهملت أي اهتمام بتاريخ الأصول الميثي26، وهي عمليّة تحصر الزمن في المجال الدُنيويّ دون تمييز بين الأحداث، أو إعطائها طابعًا نوعيًّا مُتفوقًا أو مُفارقًا. بمعنى آخر، تعمل التاريخانيّة، وفق النقد الذي قدَّمه إليادي، على نزع القداسة من الزمن، بشكل لا يعود معه لأي شيءٍ قيمةٌ أكبرَ من شيء آخر؛ مما يُسفر نهاية المطاف على فقدان كل الأشياء قيمتها الغائيّة بعد أنْ نُحي المُتعالي27 ووُضع في سجن الزمن الدُنيويّ.

لن يكون من المُفاجئ القول إن إنسان ما قبل الحداثة، عكس الإنسان المُعاصر، كان يرهن كل تصرفاته اليوميّة، مهما بدتْ بسيطة، إلى مرجعيّة مُتعاليّة، ليحيى بذلك في المُقدَّس أو بالقرب منه. إنه لمن السهل فهم هذا النزوع عند الإنسان المُتديّن Homo Religiosus؛ ذلك أن المُقدَّس بالنسبة إليه يُعادل القدرة والواقع Réalité 28، أي بمعنى آخر هو الحقيقي والمُطلق والقادر على إدامة الأشياء29، وكل ما دونه فهو زيف ووهم30. إن هذا التصنيف للوجود إلى مُقدَّس مرتبط بالحقيقة ودُنيويّ مُرتبط بالوهم، يجعل من حياة الإنسان المُتديّن عبارة عن انتقال بين طقوس عبور Rites de passage من الميلاد إلى ما بعد الوفاة، تكتسي مُكوناتها جميعًا حلة القدسيّ31 مهما كانتْ بسيطة واعتياديّة32؛ في حين جرى نزع القداسة عن جميع هذه التجارب لدى الإنسان اللادينيّ المُعاصر، الذي يُؤول كل أنشطته اليوميّة من قبيل الأكل واللعب والعمل وممارسة الجنس إلى البُعد الفيزيولوجيّ دون أن يُضفي عليها أي بُعد ماورائي، وهو ما يراه إليادي ليس نزعًا للقدسيّ في يوميات الإنسان المُعاصر فحسب، بل أيضا نزعًا للبعد الإنسانيّ33، وأمرًا طارئًا على التاريخ البشري34.

من أجل مُواجهة هذه الأزمة قام إليادي باستعادة البُعد الدينيّ في الإنسان35 بوصفه «إنسانًا مُتديِّنًا» Homo Religiosus. لا يتعلّق الأمر هنا بالطقس الدينيّ بحد ذاته، إذ قد تكون الترجمة العربيّة للعبارة التي استخدمها إليادي إلى إنسان مُتديّن36، سببا في سوء فهم لمقاربته، لا سيما عند حصر معنى المُتديّن في الممارس للدين، وهذا يُحيل على الجانب الطقوسيّ من الظاهرة الدينيّة. خلافا لذلك، يُحاجج إليادي على أنَّ الإنسان المُتديّن ليس طورًا تاريخيًّا ينقضي بعد الانتقال إلى طور آخر، بل هو بنية أساسيّة في الوعي37، تُعطي للإنسان قابليّة تصنيف الموجودات داخل ثنائيّة مُقدَّس/ دُنيويّ، التي يعُدُّها من أهم خصائص الكائن البشري.

إنَّ سبب الأزمة إذن من منظور إليادي، يتجلى في فقدان المرجع والمعنى، مما يجعل الإنسان يربط علاقة قوة مع الكون خاضعة لمفهوم السيطرة، تُؤدِّي نهاية المطاف إلى تدمير هذا الكون والعالم المُحيط، في بُعديه المادي والروحي.

تكمن مُحاولة إليادي في إعادة إظهار وتفسير البُعد الدينيّ في الإنسان كحل لهذه الأزمة، ليست بشكلٍ معارضٍ للعقلانيّة Anti-rationnelle ولكنه لاعقلانيّ أو فوق عقلانيّ A-rationnelle 38؛ فإعادة ربط الصلة بين الإنسان والكون، بالإضافة إلى كونها عودة نحو المُقدَّس، فهي الضامن لإرجاع التوازن للمطالب العقلانيّة التقنيّة في الزمن الحديث39، وبهذا المعنى يُمكن فهم مقصد إليادي عند الحديث عن الإنسان المتديّن بوصفه الإنسان الكامل40.

جدليّة المُقدَّس/ الدُنيويّ

يعد المُقدَّس بالنسبة لإليادي مركز الظاهرة الدينيّة، فمن خلاله تتم عمليّة التعالي Trenscendance التي تمتاز بها كل تجربة دينيّة. يُدرك الإنسان المُقدَّس من خلال التجلي Hiérophanie، الذي يجعل من الزمن والمكان بُعدين مُميَّزين. فالزمن يصير زمن البدايات المُقدَّس، والمكان هو مركز المُقدَّس. يُناط بالميثات والطقوس تكرار حدث التجلي، الأمر الذي يُضفي المعنى على النظام الكوني للإنسان المُتديّن. وبهذا الشكل، تجعل نظريّة إليادي من المُقدَّس العُنصر الأساسيّ وغير القابل للاختزال في الدين/ الظاهرة الدينيّة.

لا يعني ذلك أن اهتمام الباحث ينصب فحسب على دراسة المُقدَّس، فعلى الرغم من كونه -أي المُقدَّس- رديف القوة والحقيقة والواقع41، إلا أنَّه يُدرك وظيفيًا من خلال نقيضه، ليظهر بذلك الدُنيويّ كُملازم له. وبهذا الانتقال الذي أحدثه إليادي في دراسة الظاهرة الدينيّة، يُصبح حضور جدليّة المُقدَّس/ الدُنيويّ أكثر أهميّة من المُقدَّس وحده، إذ من خلال هذه الثنائيّة يمكن إدراك عمليات التجلي التي تُميز جميع التجارب الدينيّة.

يُصبح الشيء مُقدَّسًا بعد عمليّة التجلي التي تمنحه خصائص تُميزه عن الدُنيويّ والعادي، التي من أبرزها، طقوس العبادة وهالة الحُرمة المُحيطة به42. إنَّ عبادة الأشياء المُقدَّسة بمُكوّناتها الماديّة، من قبيل الحجر أو الشجر أو الأصنام، لا تتم لذاتها، بل تُعبد أو يُتقرب إليها بما هي تجلٍ للقُدسيّ43.

يتألف إذن تاريخ الظواهر الدينيّة منذ أقدم الشواهد إلى الأديان المُعاصرة، من جدليّة مُستمرة بين المُقدَّس والدُنيويّ، تتمثل في مُختلف تجارب تجليات المُقدَّس44؛ فمن منظور الإنسان المُتديّن لا يُغير هذا التجلي من طبيعة الأشياء فحسب، بل يشمل العالم بمُختلف مُكوناته، إذ هذا الانتقال من العادي إلى المُقدَّس هو ما يُميّز التّجربة الدينيّة45.

على أن هذا الانتقال إذ يؤثر إيجابًا على العالم في متخيل وذهنيّة الفرد والجماعة الدينيّة، فإنَّه أيضا قد يكون مُدمرًا لها؛ يرصد إليادي لحظتين مفارقتين Paradox تُصبح فيهما هذه الجدليّة بين المُقدَّس/ الدُنيويّ ذات خطر على تطور المُجتمعات، وذلك أثناء عمليات التجلي كما يُعبر عنها الإنسان المُتديّن. إنَّه ذلك الخلل الذي قد يلحق عمليّة الدمج بين المُقدَّس المطلق الذي لا صلة له بالعالم، مع الدُنيويّ النسبي الذي سيصبح تجليًا للمُقدَّس46؛ تبرز الأولى عندما تؤدي هذه العمليّة في ذهنيّة المُتديّن إلى تحول المُقدَّس المُطلق إلى نسبي فيفقد بالتالي خاصيّة الكمال ويتحول موضوع التجلي إلى المُقدَّس ذاته، وهو ما نجده في الأديان الوثنيّة؛ أما الثانيّة، فإنَّ التجلي المُستمر للمُقدَّس في الأشياء الدُنيويّة -من الجمادات إلى الإنسان- يُفقدها خصائصها الطبيعيّة47، فتنتقل بذلك إلى مجال التحريم والطابوهات، لتتماهى الموضوعات مع المُقدَّس والمُحرم بشكل كلي، فاقدة بذلك ذاتيّتها.

إنَّ هذا العرض لفكرة إليادي، خصوصًا مع بيان أخطار عمليات التجلي، يطرح سؤالًا رئيسًا، إلى أيّ مدًى يُمكن اعتبار المُقدَّس أصيلًا وليس اختلاقًا من طرف الإنسان؟ يصعب الإحاطة التامة بهذا السؤال في هذا الورقة، لكن يبقى جديرًا بالإشارة أنَّ إليادي كان على خلاف دائمٍ مع أنصار النظريّة الدوركايميّة، رافضًا بشكلٍ قاطعٍ ردَّ العلاقة بين الظاهرة الاجتماعيّة والظاهرة الدينيّة إلى الضمير الجمعيّ، وقد كان لنتائج أبحاث جورج دوميزيل Georges Dumézilا(ت. 1986) في دراسته للأديان الهندو-أوربيّة48، أثر في بلورة هذه الفكرة عند إليادي؛ إذْ توصَّل إلى أنَّ بنية المُقدَّس الذهنيّة ذات جذور عميقة في الوعي البشري ولها أصول تاريخيّة مُغرقةٌ في القِدَم، رافضًا اختزالها في مُجرد ارتدادات وإسقاطات اللاوعي.

تكمن أطروحة إليادي في أنَّ تأويل المُقدَّس بالضمير الجمعي، لا يُساعد على فهم الظاهرة الدينيّة محل الدراسة، وسينتهي البحث إلى نتيجة أنَّ الإنسان القديم أو الإنسان المُتديّن كان جاهلًا بتفسير الظواهر الدينيّة والاجتماعيّة لذلك أضفى عليها هالة القداسة، في حين أنَّ التعامل مع الأفكار الدينيّة كبنيّة متناسقة تُنظِّم كل سلوكياته وقيمه وفهمه للعالم، هي التي بمقدورها مُساعدة الباحث على فهم الوضع الوجودي لهذا لإنسان49.

وعلى الرغم من كون المُقدَّس هو في المقام الأول اختيار إنسانيّ، فإنَّه يفرض نفسه على الإنسان باعتباره شرطًا وجوديًّا؛ فعندما يتحدث إليادي عن الفرق بين حقيقة المُقدَّس ووهم العادي إنَّما يعرضه من منظور الإنسان المُتديّن، وهو سعي تمكن من خلاله هذا الإنسان حل أزمته الوجوديّة تُجاه الكون الذي يعيش فيه50. إذ أثناء مُواجهة التجلي يكون الإنسان أمام لحظة فارقة يضطر فيها إلى إعادة تقييم الكون الذي يعيش فيه، بين مُقدَّس ودُنيويّ، ومن ثم يتحتم عليه الاختيار والبدء في طقوس عبور جديدة.

جدير بالإشارة إلى أنَّ هذه العمليّة -التجلي- لا تخضع إلى الحس العقلاني51 فهذا الاختيار الذي يظهر كإيمان دينيّ «هو مجال المطلق واللانهائي والغيبي خارج حدود الإحساس والعقل»52. في هذا الصدد، من المُهم التمييز بين ما هو إيماني محض وما هو عقلي محض، إذ يوجد أنواع من الإيمان أو التجارب الدينيّة تتجاوز مجالها الخاص وتبني أساسها على حدود المعرفة53، فتكون من ثم قابلة للدحض وللنظر العقلي؛ أمَّا إذا ما بقيت مُحافظة على مجالها الخاص، فإن الطريقة للفهم العقلاني للتجربة الدينيّة عمومًا وتجربة تجلي القدسيّ خُصوصًا تكمن من خلال «فهم معناها وهدفها ووظيفتها في سياقها أو وفق نظامها الخاص بها»54، وهو نفس ما أكَّده إليادي ودعا إليه.

إنَّ لحظة الاختيار الحاسم التي يخوضها الإنسان المُتديّن في تجربته لتجلي المُقدَّس، تجعله يعيش هذه اللحظة بجميع عواطفه وأحاسيسه، بشكل يُصبح الاختيار مرحلةً وجوديّة مليئة بإعادة تجديد المعنى للموجودات حوله55، يعدها إليادي مرحلة تأسيسٍ رمزي، من أجل أن يُصبح العالم قابلا للعيش فيه56 بعد أن كان مُجرد عالم من الفوضى والوهم، مفتقدًا لأي معنى57. ولعل الأهم من ذلك، أنَّه من خلال جدليّة المُقدَّس/ الدُنيويّ وظاهرة التجلي يتم تشكيل العالم وتصنيف الموجودات، بشكل يتكشَّف عنه المرجع ومركز الكون58، وليس من الغريب أن يكون المعبد سواء هيكل سليمان في التقليد اليهودي أو كنيسة القيامة في التقليد المسيحي أو الكعبة في الإسلام، هي مركز الكون الذي تتفرع عنه الاتجاهات الأربعة ويُحجُّ إليه، وما دون المركز هو ساحة الدُنيويّ59 مع اختلاف الأوصاف التي تُطلق عليها في كل دين. ليخلص إليادي، بعد العديد من الأبحاث ضمَّنها في كتابه تاريخ الأفكار والمعتقدات الدينيّة60، أنه لا يُمكن الحديث عن وجود الدين دون هذه الجدليّة التي تجعل من الدُنيويّ مجال السقوط والبعد عن المُقدَّس61.

إنَّ الحالة الوجوديّة الناتجة عن جدليّة المُقدَّس/ الدُنيويّ هي المعين لديناميّة المُجتمعات البشريّة، إذ من خلالها يتم تجاوز حالة سالفة نحو أخرى جديدة. ليقوم الإنسان من خلالها بإعادة تصنيف الوجود بما يُمكِّنه من إحداث هذا الانتقال، فيُصبح الواقع المنشود هو المُقدَّس وهو عود أبدي للحظة الكمال الأولى، أما الماضي المؤطر بين لحظة السقوط وما قبل التجلي فهو المُدنس والدُنيويّ.

هذا التمايز بين الزمنين والعالمين، لا يعني أن الإنسان المُتديّن صار بمقدوره حيازة المُقدَّس، إذ يظل القُدسي دائما بعيد المنال، يتم السعي الحثيث للاقتراب منه عن طريقة التجليات المُحركة للظواهر الدينيّة، هنا تبرز الجدليّة الأساسيّة للمُقدَّس62؛ إذ بعد التجلي، يختفي المُقدَّس من جديد، لتبدأ بعدها عمليّة خلاقة من البحث عن تجلي جديد للمُقدَّس.

تكمن الإشكاليّة الأساسيّة في سؤال جوهري بالنسبة لإليادي63، كيف نستطيع إدراك الوجه الحقيقي للمُقدَّس المُطلق داخل عمليات تَخفِّيه في تجليات نسبيّة ومحدودة؟ إنَّه يؤكد باستمرار سواء في كتاباته الأكاديميّة أو الروائيّة64 أنَّ محور الظاهرة الدينيّة يكمن في عدم القدرة على إدراك المُقدَّس المُتعالي إلا عبر تجلياته في التاريخ65، ولا تسمح هذه التجليات بإدراك كُنه المُقدَّس الخفي66. وداخل هذا السياق، تبرز قيمة تاريخ الأديان بوصفه رصدًا لتجليات القدسيّ في التاريخ ومُحاولة لفهم وتأويل هذه التجليات للوصول إلى البُنى الأساسيّة للظاهرة الدينيّة67.

انطلاقًا من هذه النتيجة التي توصَّل إليها إليادي، يظهر الأفق الإنسانوي الذي يُمكن أن يُناط بحقل أكاديمي كتخصص تاريخ الأديان، يسمح بدراسة جميع المُعطيات المبثوثة في الوثائق التاريخيّة من أجل الوصول إلى مُحاولة فهم المُقدَّس.

تاريخ الأديان والنزعة الإنسانويّة الجديدة

«لعل علم الأديان هو آخر العلوم التي اتجه الإنسان المُعاصر إلى تأسيسيها، لكن بعدما نجح في ذلك، تغير معها وجه العالم»68.

«يتصور إليادي صراحة أنَّ دراسة تاريخ الأديان هو جزء من النضال من أجل استعادة روحانيّة جديدة ومناسبة»69.

يُمكن قراءة النصين أعلاه على ضوء المنهج الذي وضعه إليادي، إذ لم يكتف في مسيرته العلميّة بالتركيز على الجانب النظري فحسب، بل حاول أيضا من خلال ما توصل إليه من أبحاث أن يؤسس لإنسانويّة جديدة لمواجهة أزمة غياب المعنى في زمن الحداثة، ووِفق تعبير ديفيد گِيف: «لا يصبح تاريخ الأديان مجرد تخصص أكاديمي لدراسة الدين والأديان. بدلًا من ذلك، يُنظر إليه على أنه مُغامرة إنسيّة Humanistic يمكن بموجبها استخلاص ما كان أساسيًّا لتدين الإنسان لتعميق وتوسيع التّجربة الإنسانيّة»70.

لقد سعى إليادي إلى إخراج دراسة الدين من السياج التاريخيّ إلى مجال أرحب، إذ يرفض أن تبقى الظواهر الدينيّة مشروطة بكل ما حدث في الماضي ورهينة للمُعطيات التاريخيّة. عبّر عن ذلك في مقالته عن أزمة تاريخ الأديان قائلًا:

«إن مؤرخ الأديان يعتبر أن كون الأسطورة [ميثة] أو الطقس أمرين مشروطين دائما من الناحيّة التاريخيّة مسألة لا تفسر وجود هذه الأسطورة نفسها أو هذا الطقس نفسه؛ بتعبير آخر، إن تاريخيّة التّجربة الدينيّة لا تقول لنا، في نهاية التحليل، ما هي التّجربة الدينيّة حقيقة (…) نحن نعلم أنه ليس بوسعنا إدراك المُقدَّس إلا عبر تجلياته التي هي دائما تجليات تاريخيّة مشروطة. لكن دراسة هذه التجليات لا تحيطنا علما، لا بما هو المُقدَّس، ولا بما تعنيه التّجربة الدينيّة فعليا»71.

على أنَّ إليادي يُميز بين ضرورة عدم الخلط بين الظروف التاريخيّة التي تجعل الوجود البشري على ما هو عليه، وبين حقيقة أن هناك شيئا اسمه الوجود البشري. ينطبق ذلك أيضا على ظاهرة تجلي المُقدَّس؛ فواقع كون التجلي حدثًا مشروطًا تاريخيًّا لا يعني بالضرورة اختزال كونيته إلى المحلي72. السبيل إذن لتجاوز المأزق التاريخانيّ هو البحث عن الوحدة في الظواهر الدينيّة من خلال الغوص في مُستويات أعمق، وتحليل بنية المُقدَّس. وهذا من شأنه، ليس فقط أن يكشف وحدة مورفولوجيا المُقدَّس، ولكن أيضا من شأنه أن يُغير ذات الباحث73.

يُراهن إليادي على التأثير والتغيير الذي يتركه الموضوع على الذات، لكن كيف يُمكن وضع نقد يُحافظ على موضوعيّته ويسمح بالانعتاق من نظرتنا الذاتيّة أو حتى من إحداث بعض التغيير عليها؟ وهذه واحدة من أهم الانتقادات التي وُجهتْ لمقاربة إليادي. العديد من الأجوبة حاولت حل هذه المعضلة؛ فرواد المدرسة الدوركايميّة في أواخر القرن العشرين والأنثروبولوجيون أمثال ليفي ستراوس أعلنوا النسبيّة المُطلقة للثقافات، مع ضرورة دراستها بوصفها وحدات مُستقلة، لتُصبح حينها الثقافات شبيهة بأعمال فنيّة تُثير الإعجاب والدهشة، وقد سار جوناثان ز. سميث على المنوال نفسه74. على النقيض من ذلك، يرى إليادي أنَّه عبر المُجتمعات تكمن وحدة في التجارب الإنسانيّة. ومن خلال اشتغاله داخل حقل تاريخ الأديان، فإنَّ إليادي يُحاول الوصول إلى نتائج جديدة انطلاقًا من منهجيّة شديدة التعقيد75. فعندما تحدث رودولف أوتو عن العناصر القابعة في الألوهي، نجده يسير نحو هذا المزج بين الذات والموضوع، داعيا القارئ إلى استذكار تجربته الشخصيّة للمُقدَّس: «إنَّ القارئ مدعوٌ إلى التوجه بذهنه نحو اختبار دينيّ جرى له في العُمق (…) من لم يستطع القيام بهذا الأمر، ومن لم يعرف مثل هذه اللحظات في اختباره، حريّ به ألا يمضي بعدُ في القراءة شأوًا أبعد»76، فمُشاركة الذات في موضوعها ليس رهين مرحلة الفهم فحسب، بل أيضا في المعيش اليومي وأثناء عمليّة البحث نفسها.

لقد استفاد إليادي مما قدَّمه أوتو، مُبلورًا ذلك وِفق منهجيته الخاصة؛ إذ يُصبح إعادة بناءِ تاريخِ شكلٍ من الأشكال الدينيّة وفهم معناه، ضرورة ثقافيّة مُلحة، يُناط بها رفع جهل الإنسان المُعاصر بالأوضاع الوجوديّة الدينيّة لمُجتمعات ما قبل الحداثة، وتسمح بمعرفة أعمق بالإنسان، وهي المعرفة التي من شأنها تأسيس إنسانويّة جديدة77 تنتقل من البُعد الموضوعيّ إلى البُعد الذاتيّ. يتجلى الأول في دراسة الأديان دراسة تاريخيّة وإبراز مُختلف سياقات التعبيرات والأوضاع الدينيّة؛ أما على صعيد الذات، فإنَّ إليادي يدعو من خلال اللقاء مع الآخر المُختلف والغريب والمجهول إلى خوض غمار تجربة شخصيّة فريدة وخلاقة تتجاوز حدود الاحتكاك المُباشر78، ولن يكون هذا اللقاء خلاقًا إلا بعد أن يكون مُؤرخ الأديان قد تخطَّى مرحلة التبحُّر المحض إلى مرحلة الاستيعاب والفهم والاجتهاد التأويلي.

إنَّ هذا الفهم الذي يتجاوز الدراسات المونوغرافيّة للأديان، سيُفضي إلى تأويليّة خلاقة تُغير نظرة الإنسان للوجود وتتجاوز مأزق العُنف الدينيّ؛ تبدأ مع ذات الدارس نفسه بعد أن يستشعر تلك التجارب الدينيّة التي كانت موضوع بحثه، ثم تنتقل إلى ذات القارئ بعد أن يلج أفقًا غير مطروق من قبل، يسمح بخلق قيم ثقافيّة جديدة، فحسب إليادي «يتوجب أن يكون للكتاب الجيد في تاريخ الأديان تأثير اليقظة في قارئه»79.

خاتمة

إنَّ تخصص تاريخ الأديان كحقل معرفي في العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة بالنسبة لميرسيا إليادي، يُناط له دور محوري في التأسيس لحركة إنسانويّة جديدة، تأخذ بعين الاعتبار البُعد المُقدَّس وتنفتح على التجارب الدينيّة لحضارات ذات سياقات مُختلفة عن الحضارة الغربيّة80، إذ من خلال تاريخ الأديان استطاع رصد الأزمة، ومن خلاله أيضا يُرِيد حل هذه الأزمة. وهو ما يسمح بالقول بأن إنتاج إليادي ليس مُجرد نظريّة في تاريخ الأديان، بل هو أيضا سعى إلى إرساء منهج يسمح بتغيير نظرة الإنسان نحو العالم، ومن ثم القدرة على تغيير العالم. لكن على الرغم من ذلك، تُعرقل العديد من العقبات تقدم الأبحاث، فلا يزال «تاريخ الأديان» موضع جدل من طرف رجال الدين الذين يرون فيه نوعًا من تهديد مؤسسة الدين التاريخيّة، أو من طرف علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا والمشتغلين بالعلوم الاجتماعيّة الذين يشككون دائما في انتماءات أصحاب مثل هذه المُقاربات الجديدة، مُعتبرين إياها نوعًا من إعادة الدين إلى حاضرة المجتمع، وحنينا ماضويا للتدين لا يروه إلا انعكاسًا للأوهام والجهل81. غير أنَّه في الوقت الذي يُصبح لتاريخ الأديان تراكم معرفي، ويصل بذلك إلى عتبة إرساء إنسانويّة جديد، فإن نظرتنا للتجارب الدينيّة ستتغير، وسيترتب عليه أيضا إعادة تجديد العلاقة بين الدين والعلمانيّة في المُجتمعات الحديثة.

قائمة المراجع

إلياد، مرسيا. أسطورة العود الأبدي. ترجمة نهاد خياطة. دمشق: طلاسدار، 1987.

إلياد، مرسيا. المُقدَّس والعادي. ترجمة عادل العوا. بيروت: التنوير، 2009.

إلياد، ميرسيا. تاريخ الأفكار والمعتقدات الدينيّة. ترجمة: عبد الهادي عباس. 3 أجزاء. دمشق: دار دمشق، 1986.

إلياده، ميرتشيا. البحثُ عن التاريخ والمعنى في الدين. ترجمة سعود المولى. بيروت: المنظمة العربيّة للترجمة، 2007.

أوتو، رودولف. فكرة القدسيّ: التقصي عن العامل غير العقلاني في فكرة الإلهي وعن علاقته بالعامل العقلاني. بيروت: دار المعارف الحكميّة، 2010.

إيلياد، ميرسيا. الأساطير والأحلام والأسرار. ترجمة حسيب كاسوحة. دمشق: منشورات وزارة الثقافة في الجمهوريّة العربيّة السوريّة، 2004.

بشارة، عزمي. الدين والعلمانيّة في سياق تاريخيّ. الجزء الأول. الدين والتديّن. الدوحة، بيروت: المركز العربيّ للأبحاث ودراسات السياسات، 2013.

سيبويه، عمرو بن عثمان. الكتاب: كتاب سيبوبه. تحقيق عبد السلام هارون. ط 3. القاهرة: مكتبة الخانجي، 1988.

فرنان، جان بيار. الأسطورة والفكر عند اليونان دراسات في علم النفس التاريخيّ. ترجمة: جورج رزق. بيروت: المنظمة العربيّة للترجمة، 2012.

فيبر، ماكس. العلم والسياسة بوصفهما حرفة. ترجمة جورج كتورة. بيروت: المنظمة العربيّة للترجمة، 2011.

كوثراني، وجيه. تاريخ التأريخ. ط 2. بيروت: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2013.

مسلان، ميشال. علم الأديان مساهمة في التأسيس. ترجمة عزالدين عناية. أبو ظبي: كلمة، 2009.

هابرماس، يورغن. «الحداثة - مشروع لم يكتمل». ترجمة: فتحي المسكيني. تبين. العدد 1 (2012)، ص 183-197.

Allen, Douglas. Mircea Eliade et le phénomène religieux. Paris: Payot, 1982.

Almond, Philip C. Mystical Experience and Religious doctrine: An investigation of the study of mysticism in world religions. Berlin: Walter de Gruyter & Co, 1982.

Berger, Adriana. “Fascism and Religion in Romania”. The Annals of Scholarship. vol. 6, no. 4 (1989), p. 455-465.

Carrette, Jeremy. “Religion and Post-Structuralism”. in: John Hinnells (ed.). The Routledge Companion to the Study of Religion. London: Routledge, 2009, p. 274-290.

Cave, David. Mircea Eliade’s Vision for a New Humanism. Oxford: Oxford University press, 1993.

Deprez, Stanislas. Mircea Eliade: La philosophie du sacré. Paris: L’Harmattam, 1999.

Dubuisson, Daniel. Impostures et pseudo-science: L’œuvre de Mircea Eliade. Villeneuve d’Asq: Presses universitaires du Septentrion, 2005.

Dubuisson, Daniel. Mythologies du XXe siècle: Dumézil, Lévi-Strauss, Eliade. Villeneuve d’Ascq: Presses universitaires de Lille, 1993.

Dumézil, Georges. Mythe et Epopée: L’idéologie des trois fonctions dans les épopées des peuples indo-européens. vol. 1. Paris: Gallimard, 1968.

Eliade, Mircea. À l’ombre d’une fleur de lys…. Alain Paruit (trans). Paris: Gallimard, 2013.

Eliade, Mircea. Le chamanisme: et les techniques archaïques de l’extase. Paris: Payot, 1950.

Eliade, Mircea. Le Mythe de l’éternel retour: Archétypes et répétition. Paris: Gallimard, 1965.

Eliade, Mircea. Le Sacré et le profane. Paris: Gallimard, 1965.

Eliade, Mircea. Traité d’histoire des religions. Georges Dumézil (préf.). Paris: Payot, 1949.

Habermas, Jürgen. Die Moderne, Ein Unvollendetes Projekt: Philosophisch-politische Aufsätze. Leipzig: Reclam, 1994.

Janicaud, Dominique. “‘Puissance du rationnel’ et techno-sciences”. Terminal. no. 68 (été 1995), accessed on 15/01/2021, at: https://bit.ly/3rTmhAx

Pinker, Steven. Enlightenment Now The Case for Reason, Science, Humanism, and Progress. [London] : Penguin Books, 2019.

Rennie, Bryan & Philip Ó Ceallaigh. “Mircea Eliade and Antisemitism: An Exchange”. Los Angeles review of books. (13/09/2018), accessed on 17/12/2021, at: https://bit.ly/3tixT4x

Rennie, Bryan S. “The diplomatic career of Mircea Eliade: A response to Adriana Berger”. Religion. vol. 22, no. 4 (1992), p. 375-392.

Rocquet, Claude-Henri. L’épreuve du labyrinthe: Entretiens avec Mircea Eliade. Paris: Editions du Rocher, 2006.

Smith, Jonathan Z. Imagining Religion: From Babylon to Jonestown. Chicago: University of Chicago Press, 1982.

Sun, Allan. “Chasing One’s Tail: Some Reflections on the Methodologies of Mircea Eliade and Jonathan Z Smith”. in: Victoria Barker and Frances Di Lauro (eds.). On a Panegyrical Note: Studies in Honour of Garry W. Trompf. Sydney: Dept. of Studies in Religion, University of Sydney, 2007, p. 189-204.

Todorov, Tzvetan. Les Ennemis Intimes De La Démocratie. Paris: Laffont, 2012.

Waardenburg, Jean Jacques. Classical approaches to the study of religion. Aims, methods and theories of research. New York: Walter de Gruyter, 1999.

Werblowsky, R. J. Zwi. “History of Religions as History of Ideas: Review of A History of Religious Ideas, by M. Eliade & W. R. Trask”. History of Religions. vol. 23, no. 2 (1983), p. 181-186.


1 يكتب اسم ميرتشيا إليادي حسب نظام الألفبائيّة الصوتيّة الدوليّة IPA كالتالي: ˈmirt͡ʃe̯a eliˈade. ونظرًا لتعدد رسم اسمه عند نقله للحرف العربيّ فيما تُرجم له من أعمال، فقد ارتأيت أن أثبت الاسم، كما توصلت إليه اعتمادًا على الألفبائيّة الصوتيّة الدوليّة، في متن الورقة، وأترك اختيار المُترجم في الهامش عند الإحالة عليه.

2 تم اختيار مُصطلح «ميثة» بديلًا عن «أسطورة»، لأنَّ الترجمة الدقيقة لـ Myth هي قصة الآلهة، وليست أسطورة، أو خُرافة كما هو شائع في الكثير من الكتابات. قصة الآلهة هو التوظيف الذي استخدمه هوميروس بادئ الأمر، ويُعد أقدم توثيق مدون ذُكرتْ فيها العبارة، ولأنَّ عبارة «قصة الآلهة» مركبة، وتحمل معانٍ قدْ لا تُحيل على توظيفها الأصلي في السياق الدلالي العربيّ، فقد ارتأيتُ ترجمة Myth بشكل حرفي إلى ميثة، ومنه الميثولوجيا باعتبارها العلم الذي يدرس قصص الآلهة. وكان لاختيار جورج رزق لفظة ميثة عوض أسطورة في ترجمة كتاب بيار فيرنان Mythe et pensée chez les Grecs دلالة على فهم التطور اللغوي لمصطلح أسطورة وتاريخه المورفولوجي عند العرب والغرب. وأمَّا مصطلح أسطورة فالراجح أنَّ دلالته تعني التاريخ، ويُثبتُ البحث الفيلولوجي، كما أشار لذلك وجيه كوثراني في كتابه تاريخ التأريخ، أنَّ أسطورة لفظة عربيّة حميريّة الأصل تنتمي إلى جذر سامي، وانتقلتْ إلى اللغة اليونانيّة عن طريق الفينيقيين. كما أنَّ الاستعمال القرآني الأول وظَّف أسطورة وجمعها أساطير بالمعنى نفسه الذي تُحيل عليه عبارات من قبيل الخبر والحديث والقصة، ولم تأخذ معناها المعياريّ القدحي إلا مع المُفسرين الذين قرنوا الأسطورة بقصص الأقدمين ومُعتقدات ما قبل الإسلام. يُنظر: جان بيار فرنان، الأسطورة والفكر عند اليونان دراسات في علم النفس التاريخيّ، ترجمة: جورج رزق (بيروت: المنظمة العربيّة للترجمة، 2012)، ص 7-20؛ وجيه كوثراني، تاريخ التأريخ، ط 2 (بيروت: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2013)، ص 37-42.

3 Mircea Eliade, Le Mythe de l’éternel retour: archétypes et répétition (Paris: Gallimard, 1965).

4 Mircea Eliade, Le Sacré et le profane (Paris: Gallimard, 1965);

مرسيا إلياد، المُقدَّس والعادي، ترجمة عادل العوا (بيروت: التنوير، 2009).

5 Mircea Eliade, Le chamanisme: et les techniques archaïques de l’extase (Paris: Payot, 1950).

6 Mircea Eliade, Traité d’histoire des religions, Georges Dumézil (préf.) (Paris: Payot, 1949).

7 من أهم الدراسات التي أُفرِدتْ لهذه القضيّة، دارسة ديفيد گِيف، وهي بماثبة سيرة ذاتيّة علميّة، قرأ من خلالها گِيف مُجمل أعمال إليادي، الأكاديميّة والأدبيّة والصحفيّة، على ضوء فكرة «النزعة الإنسانويّة الجديدة»، يُنظر:

David Cave, Mircea Eliade’s Vision for a New Humanism (Oxford: Oxford University press, 1993), p. 12-13, 103.

8 Douglas Allen, Mircea Eliade et le phénomène religieux (Paris: Payot, 1982), p. 11.

9 للوقوف على مختلف الانتقادات لمنهجيّة ميرتشيا إليادي يُنظر:

Stanislas Deprez, Mircea Eliade: La philosophie du sacré (Paris: L’Harmattam, 1999), p. 75-83.

10 أحيل في هذا الصدد على دانيال دوبويسون Daniel Dubuisson، وهو من بين الرافضين لمقاربة ميرتشيا إليادي، وبالإضافة إلى انتماء دوبويسون إلى المدرسة الدوركايميّة، فقد اعتبر أيضا أن نظريّة إليادي متأثرة بمعاداة الساميّة، يُنظر:

Daniel Dubuisson, Mythologies du XXe siècle : Dumézil, Lévi-Strauss, Eliade (Villeneuve d’Ascq: Presses universitaires de Lille, 1993) ; Daniel Dubuisson, Impostures et pseudo-science: L’œuvre de Mircea Eliade (Villeneuve d’Asq: Presses universitaires du Septentrion, 2005).

11 اعتمد دوبويسون في هذه الحجة على المقالة التي نشرتها أدريانا بيرغر Adriana Berger عام 1989، وهي أول عمل توثيقي ربط إليادي بالحركة اليمينيّة الرومانيّة، وستتوالى الدراسات التي تطرقتْ إلى الحياة السياسيّة لإليادي، معتمدةً على عمل بيرغر. من المُهم في هذا الصدد الإشارة إلى أنَّ براين ريني Bryan Rennie قدَّم مُراجعة لمخُتلف الوثائق التي اعتمدتْ عليها بيرغر، وأظهر تحيزها غير الأكاديمي، مُشيرًا إلى أنَّ ربطها لإليادي بمعاداة الساميّة لا أساس له من الصحة. حول عمل كل من بيرغر وريني يُنظر:

Adriana Berger, “Fascism and Religion in Romania”, The Annals of Scholarship, vol. 6, no. 4 (1989), p. 455-465; Bryan S Rennie, “The diplomatic career of Mircea Eliade: A response to Adriana Berger”, Religion, vol. 22, no. 4 (1992), p. 375-392;

ما زالتْ هذه القضيّة تُثير النقاش بين أوساط المؤرخين، لاسيما فيما يتعلّق بإعادة كتابة التاريخ وتصفيّة إرث مُعاداة الساميّة. ويبدو مناسبا هنا أن أقتبس هذا النص من آخر النقاشات حول الموضوع التي قدمه ريني، حيث انتبه إلى أن الاتهمامات المُوجهة إلى إليادي بمُعادة الساميّة كانت سببا في رفض مقاربته حول الدين والمُقدَّس في بعض الأوساط الأكاديميّة، يقول في ذلك: «لقد جادل دانيال دبويسون عام 1993 بأن معاداة الساميّة المتأصلة عند إليادي قد أفسدتْ تحليلاته للمُقدَّس؛ وفي عام 1999، قال ستيفن واسرستروم في كتابه دين بعد دين Religion after Religion إن إليادي ’يقف على كومة من الجثث’ [يقصد بذلك إبادة اليهود في رومانيّا] (...)، يجب هنا التأكيد على أنَّ تطور فهم إليادي للدين لم يكن مؤسسًا على معادات الساميّة، بل من خلال احتكاكه بالأرثوذكسيّة الرومانيّة وديانة شبه القارة الهنديّة، ومن سعة الاطلاع الكبيرة لديه، ومن وضوح الرؤية في مقاربته»، يُنظر:

Bryan Rennie & Philip Ó Ceallaigh, «Mircea Eliade and Antisemitism: An Exchange», Los Angeles review of books, (13/09/2018), accessed on 17/12/2021, at: https://bit.ly/3tixT4x

12 ميرتشيا إلياده، البحثُ عن التاريخ والمعنى في الدين، ترجمة سعود المولى (بيروت: المنظمة العربيّة للترجمة، 2007)، ص 22، 78.

13 Deprez, p. 36.

14 حول أثر مقاربات ما بعد الحداثة على الدراسات الدينيّة يُنظر:

Jeremy Carrette, “Religion and Post-Structuralism”, in: John Hinnells (ed.), The Routledge Companion to the Study of Religion (London: Routledge, 2009), p. 274-290.

15 Cf. Jonathan Z. Smith, Imagining Religion: From Babylon to Jonestown (Chicago: University of Chicago Press, 1982).

16 حول المقارنة بين مقاربة إليادي ذات البُعد الفينومينولوجي-التاريخيّ ومقاربة سميث ما بعد الحداثيّة يُنظر:

Allan Sun, “Chasing One’s Tail: Some Reflections on the Methodologies of Mircea Eliade and Jonathan Z Smith”, in: Victoria Barker and Frances Di Lauro (eds.), On a Panegyrical Note: Studies in Honour of Garry W. Trompf (Sydney: Dept. of Studies in Religion, University of Sydney, 2007), p. 189-204.

17 ميرسيا إيلياد، الأساطير والأحلام والأسرار، ترجمة حسيب كاسوحة (دمشق: منشورات وزارة الثقافة في الجمهوريّة العربيّة السوريّة، 2004)، ص 17.

18 حول سرديّة التقدم يُمكن الإحالة على باحثين أكاديميين يتطرقان للموضوع من وِجهتي نظر مُختلفتين، الأول ستيفن بينكر في كتابه التنوير الآن، والثاني تزفيتان تودوروف في كتابه أعداء الديمقراطيّة الحميمون. دافع بينكر على مُكتسبات عصر التنوير والحداثة باعتبارها سببا في ازدهار المُجتمعات على شتى الأصعدة، الصحة والتعليم والحقوق والأمن والسلام، مُعتمدًا في ذلك على إحصائيات تُؤكد نظرته الإجابيّة للتقدم، يأتي هذا الموقف من بينكر، وبشكل واضح، في مواجهة ما أسماه بالتيار التشاؤمي الذي يرى في النهج النيوليبرالي سببا في غياب العدالة الاجتماعيّة، وسببا في إطلاق شرارة مخاطر وجوديّة تُهدِّد البشريّة جمعاء، من قبيل الحروب النوويّة والاحتباس الحراري والذكاء الصناعي؛ في حين، يُحاول تودوروف مناقشة التهديدات الداخليّة للديمقراطيّة النابعة من العناصر المُكونة لها، التقدم والحريّة والشعب، دون أنْ يكون هدفه تقويض مشروع الحداثة بقدر ما هو مُحاولة لإيجاد التوازن بين سيادة الشعب وحريّة الفرد -بالإمكان الإحالة أيضا داخل هذا السياق على يورغن هابرماس لاسيما في نظريته عن الحداثة بوصفها مشروعًا لم يكتمل-. إنَّ إدراج هذه الفكرة «سرديّة الحداثة» داخل الحديث عن إنسانويّة جديدة عند إليادي، يكمن في مُحاولة وضع مشروعه داخل سياقه التاريخيّ بعد أربعة عقود من إنجازه، ليس بوصفه نقدًا للحداثة أو نزعة ما بعد حداثيّة، وإنَّما كمُحاولة لإيجاد توازن داخل الحداثة نفسها لمُجتمعات استبدلتْ بشكل نهائي ومُطلق سُلطة المُتعالي بسُلطة الشعب؛ لذلك نجد إليادي نفسه ينتقد الغرور -استخدم هنا عبارة تودورف- في استبدال سلطة الشعب بسلطة مُتعاليّة أخرى أدى إلى ظهور أنظمة شموليّة، اعتبرها نوعًا من عودة الدين ورموزه لكن بطريقة سلبيّة.

في جميع الحالات، لا يتطلب الموقف العقلاني أن يتبنى المرء سرديّة الحداثة التي يُدافع عنها بينكر (في شقها المُرتبط بالتقدم) أو التي يُدافع عنها تودورف (في شقها المُرتبط بالحريّة)، ولا سرديّة مابعد حداثيّة ترى في النيوليبراليّة خطرًا على الجنس البشري في نزوع تشاؤمي أشبه ما يكون إلى الأبوكاليبتيّة، بل يحتاج الأمر إلى تفحص نقدي دائم لكل الحُجج المُقدمة من الطرفين. عن الكتابين المُشار إليهما أعلاه، يُنظر:

Steven Pinker, Enlightenment Now The Case for Reason, Science, Humanism, and Progress ([London]: Penguin Books, 2019); Tzvetan Todorov, Les Ennemis Intimes De La Démocratie (Paris: Laffont, 2012).

19 يقول ماكس فيبر في محاضرته «العلم بوصفه حرفة» “Wissenschaft als Beruf”: «إن مصير عصرنا الذي يتميَّز بالعقلنة والتعقل، والمتميِّز خاصة بنزع السحر عن العالم، قد أدى إلى هدم القيم العليا الساميّة وسحبها من الحياة العامة لتجد لها مكانا في مملكة الحياة الصوفيّة المفارقة أو في أخويّة العلاقات المباشرة المتبادلة بين أشخاص معزولين»، يُنظر: ماكس فيبر، العلم والسياسة بوصفهما حرفة، ترجمة جورج كتورة (بيروت: المنظمة العربيّة للترجمة، 2011)، ص 204.

20 Deprez, p. 8.

21 Ibid, p. 9.

22 يتم الخلط في الكثير من الأحيان بين التحذيرات العلميّة التي تصدر عن باحثين متخصصين في علوم الطبيعة -في علم البيئة وعلوم الفضاء وغيرها- وبين مواقف من باحثين ينطلقون في تحذيرهم من موقع مُضاد للحداثة والدولة الحديثة. لا شكَّ أنَّ إحدى أسباب الخلل في التوازن البيئي يكمن في التدخل البشري، الذي صار مُمكنا نتيجة الاستغلال غير الرشيد للموارد الطبيعيّة، غير أنَّ إصلاح هذا الخلل وإيجاد حلول له، لا يُتصور -على المُستوى العملي- أن يتم من خارج الحداثة نفسها، ما يدفع إلى التأكيد على مقولة هابرماس بأن الحداثة مشروع لم يكتمل؛ ولا يبدو أن الموقف المُضاد للحداثة، الذي ينحو في نسخه الأكثر راديكاليّة إلى العدميّة، يُمكن أن يُحفز على إيجاد حلول عقلانيّة لمُشكلة التغير المناخي أو المخاطر التي تُهدد الوجود البشري. حول فكرة هابرماس، يُنظر: يورغن هابرماس، «الحداثة - مشروع لم يكتمل»، ترجمة: فتحي المسكيني، تبين، العدد 1 (2012)، ص 183-197؛

Jürgen Habermas, Die Moderne, Ein Unvollendetes Projekt: Philosophisch-politische Aufsätze (Leipzig: Reclam, 1994).

23 وهي بالتأكيد حُجة قدَّمها العديد من الباحثين، إذ على سبيل المثال، يقول المؤرخ والفيلسوف الفرنسي دومينيك جانيكو Dominique Janicaud: «لا يمكن لأحد أن ينكر أنه في فترة زمنيّة وجيزة نسبيًا، حوّل العلم والتكنولوجيا كوكبنا إلى درجة تقويض التوازن البيئي والإثنولوجي، جعلت الإنسان يشك في معنى وجوده وأفعاله، حتى وصلنا الآن إلى مرحلة اضطراب هويته»، يُنظر:

Dominique Janicaud, “‘Puissance du rationnel’ et techno-sciences”, Terminal, no. 68 (été 1995), accessed on 15/01/2021, at: https://bit.ly/3rTmhAx

24 إيلياد، الأساطير والأحلام والأسرار، ص 72.

25 إلياده، البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، ص 131.

26 إيلياد، الأساطير والأحلام والأسرار، ص 71.

27 Deprez, p. 10.

28 الياد، المُقدَّس والعادي، ص 52.

29 مرسيا إلياد، أسطورة العود الأبدي، ترجمة نهاد خياطة (دمشق: طلاسدار، 1987)، ص 17؛ ميشال مسلان، علم الأديان مساهمة في التأسيس، ترجمة عزالدين عناية (أبو ظبي: كلمة، 2009)، ص 181.

30 يُمكن الإشارة في سياقنا الإسلاميّ إلى العديد من الأمثلة لتجارب صوفيّة تنزع إلى وصف العالم الدُنيويّ بالوهم، وأن الحقيقة الوحيدة المُطلقة هي الألوهي. وليس هذا النزوع نحو وصف العالم الدُنيويّ بالوهم رهين التّجربة الإسلاميّة بل هو بنيّة ذهنيّة يُمكن رصدها في مُختلف الظواهر والتجارب الدينيّة، يُنظر:

Philip C. Almond, Mystical Experience and Religious doctrine: An investigation of the study of mysticism in world religions (Berlin: Walter de Gruyter & Co, 1982), p. 129.

31 الياد، المُقدَّس والعادي، ص 193.

32 إلياده، البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، ص 155.

33 الياد، المُقدَّس والعادي، ص 194.

34 المرجع نفسه، ص 53.

35 لا يَقصد إليادي من خلال استعادة البُعد الدينيّ في الإنسان جملة المعتقدات والطقوس المُقنَّنة، أو الحُكم على الإنسان من خلال إدراجه داخل بنيّة دينيّة تاريخيّة مُغلقة.

36 مُتديِّن هو اسم الفاعل من فعل تديَّن، ومن معاني هذه الصيغة ما يُشير إلى العمل والممارسة، يقول سيبويه في ذلك: «وإذا أراد الرَّجل أن يُدخل نفسه في أمر حتَّى يُضاف إليه ويكون من أهله فإنك تقول: تفعَّل»؛ وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى الموافقة بين المُتديّن والشخص الذي يُمارس طقسا دينيّا، على غير المعنى الذي أراده إليادي. حول سبويه يُنظر: عمرو بن عثمان سيبويه، الكتاب: كتاب سيبوبه، تحقيق عبد السلام هارون، ط 3 (القاهرة: مكتبة الخانجي، 1988) ج 4، ص 71.

37 Claude-Henri Rocquet, L’épreuve du labyrinthe: Entretiens avec Mircea Eliade, (Paris: Editions du Rocher, 2006), p. 176.

38 يبدو هنا من المُناسب الإحالة على رأي رودولف أوتو Rudolf Ottoا(1869-1937) بشأن هذا الانتقال من العقلاني إلى اللاعقلاني، لاسيما أنَّه من أبرز المؤثرين في رؤية إليادي الفينومينولوجيّة؛ يقول أوتو في مقدمة كتابه فكرة القدسيّ ما نصه: «قبل المغامرة في مضمار هذا البحث، أمضيت عدة سنوات في دراسة الجانب العقلاني من ذلك الواقع الأسمى (…) ويُخامرني الشعور بأنَّ من لم يقف من قبلُ للعقل الأزلي دراسة مثابرة وجادَّة، لا يجدر به أن يولي اهتمامه الألوهيَّ الممتنع الوصف»؛ وهو ما يُفيد بأن اللاعقلانيّة هي في حقيقة الأمر نقد للعقلانيّة، يُعيد الاعتبار للعامل الدينيّ في حياة الإنسان المُعاصر، ويظهر هذا المعنى أيضا في قوله: «لا أرمي البتة من وراء هذا إلى الترويج لميل زماننا إلى لاعقلانيّة متهورة وباهرة، بل بالأحرى إلى خوض نقاش معه، في شكل صيغته العليلة. اللاعقلاني اليوم، موضوع يأنس جانبه جميع الذين يتوانون عن أن يعملوا فكرهم، وأن يرسوا قناعاتهم، على أساس تفكير سليم، أو الذين لا يتورَّعون عن التملّص من وعورة ذلك الواجب عليهم». أي بمعنى آخر أن إنتاج رودولف ومن بعده إليادي لا يجب أن يُقرأ كمُعارض للعقلانيّة، ولكن بشكل أدق كنقد يُصحح أخطاءها. يُنظر: رودولف أوتو، فكرة القدسيّ: التقصي عن العامل غير العقلاني في فكرة الإلهي وعن علاقته بالعامل العقلاني (بيروت: دار المعارف الحكميّة، 2010)، ص 21.

39 Rocquet, p. 176.

40 Deprez, p. 12.

41 الياد، المُقدَّس والعادي، ص 52.

42 جدير بالإشارة إلى أن التعبير الدارج على أنَّ المُحرم هو نقيض المُقدَّس، لا يتماشى مع منهجيّة إليادي وجدليّة المُقدَّس/ الدُنيويّ. وعلى الرغم من أنَّ عبارة المُحرم عادة ما توصف بها الأشياء المُناقضة للمُقدَّس في السياق العربيّ الإسلاميّ، فإنَّ الرجوع إلى أصلها اللغوي وإلى بداية عمليات التحريم يُؤكد أنَّ الأصل في المُحرم هو التقديس، ونظرًا لشدة قداسته يتم تحريمه والتحذير من انتهاكه.

43 تجدر الإشارة إلى الأبحاث قبل أطروحة إليادي، خصوصا نظريات كل من ماكس مولر Max Müllerا(1823-1900) وإدوارد تايلور Edward Tylorا(1832-1917)، كانت تذهب إلى كون عبادة الأشياء الماديّة تتم لذاتها وليس لكونها تجل للقدسيّ. يُنظر: إلياده، البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، ص 132.

44 الياد، المُقدَّس والعادي، ص 51.

45 يتحدث عزمي بشارة عن هذا المعنى الفريد عند إليادي قائلًا: «إن الانقال من العادي إلى المُقدَّس هو ما يميّز الشعور الدينيّ، وينشِئُ هذا الانتقال بلغة ميرسيا إلياد فضاءاتٍ مُختلفة مكانيًا وزمانيًا، رمزيًا وطقوسيًا، عن الأمكنة الأخرى العاديّة الفيزيقيّة»، يُنظر: عزمي بشارة، الدين والعلمانيّة في سياق تاريخيّ. الجزء الأول. الدين والتديّن (الدوحة، بيروت: المركز العربيّ للأبحاث ودراسات السياسات، 2013)، ص 52-53.

46 Deprez, p. 87.

47 Ibid, p. 88.

48 يقول دوميزيل بعد أن توصل إلى أسس نظريته التي عدلتْ النموذج الدوركايمي وأثبت من خلالها وجود بنية ذهنيّة تسبق الحقائق الاجتماعيّة: «أدركتُ حوالي سنة 1959 أنَّ الأيديولوجيا الثلاثيّة لا تقترن بالضرورة في حياة مُجتمع ما مع تقسيم ثلاثي حقيقي للمجتمع وفقًا للنموذج الهندي؛ ما يبدو واضحًا على العكس من ذلك، أنَّ هذه الأيديولوجيا تظهر كفكرة مثالية un ideal، وفي الوقت نفسه كوسيلة لتحليل ولتفسير القوى التي تضمن سير العالم وحياة الناس»، يُنظر:

Georges Dumézil, Mythe et Epopée: L’idéologie des trois fonctions dans les épopées des peuples indo-européens, vol. 1 (Paris: Gallimard, 1968), p. 15.

49 إلياده، البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، ص 156.

50 Deprez, p. 88-89.

51 Allen, p. 101.

52 بشارة، ص 32.

53 المرجع المرجع نفسه، ص 32.

54 المرجع نفسه، ص 28.

55 Douglas, p. 101.

56 الياد، المُقدَّس والعادي، ص 60.

57 مسلان، ص 178.

58 الياد، المُقدَّس والعادي، ص 60.

59 Douglas, p. 102.

60 ميرسيا إلياد، تاريخ الأفكار والمعتقدات الدينيّة، ترجمة: عبد الهادي عباس، 3 أجزاء (دمشق: دار دمشق، 1986).

61 Douglas, p. 102.

62 Ibid, p. 105.

63 Ibidem.

64 يُنظر على سبيل المثال روايته في ظل زهرة الزنبق À l’ombre d’une fleur de lys، خصوصا الفصل الأول حيث يجعل من الصبي براندوس تمثيلا للمُقدَّس الذي ما أن عثرت عليه صديقته أگريبين، حتى فقدته من جديد، وهذا المعنى يظل حاضرًا ومؤطرًا للرواية في جميع فصولها الخمسة، يُنظر:

Mircea Eliade, À l’ombre d’une fleur de lys…, Alain Paruit (trans), (Paris: Gallimard, 2013).

65 Douglas, p. 105.

66 إلياده، البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، ص 134.

67 حاول إليادي تطبيق هذه النظريّة والنفاذ إلى البُنى الأساسيّة للظاهرة الدينيّة في كتابه مُصنف في تاريخ الأديان Traité d’histoire des religions.

68 Jean Jacques Waardenburg, Classical approaches to the study of religion. Aims, methods and theories of research (New York: Walter de Gruyter, 1999), p. 86.

69 R. J. Zwi Werblowsky, “History of Religions as History of Ideas: Review of A History of Religious Ideas, by M. Eliade & W. R. Trask”, History of Religions, vol. 23, no. 2 (1983), p. 181-186, p. 183.

70 David Cave, Mircea Eliade’s Vision for a New Humanism, p. 22.

71 إلياده، البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، ص 134.

72 توسع إليادي لبيان هذا المعنى في مقدمة كتابه المصنف في تاريخ الأديان، وهو من المؤلفات الأساسيّة التي حاول فيها البحث عن البنى الأساسيّة للظاهرة الدينيّة مُتجاوز السياقات التاريخيّة لكل تجربة، يُنظر:

Eliade, Traité…, p. 25-26.

73 يقول إليادي: «إنَّ وحدة الجنس البشري هي أمر مسلم به واقعيا، في عدد من فروع المعرفة الأخرى، مثل الألسنيّة والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع. لكن مؤرخ الأديان يمتاز بإدراك هذه الوحدة في مستوياتها الأرفع أو الأعمق وبأن من شأن هكذا تجربة أن تُغنيه وأن تُغيِّره»، يُنظر: إليادي، البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، ص 157.

74 Sun, p. 200.

75 Deprez, p. 45.

76 أوتو، ص 31.

77 إلياده، البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، ص 50.

78 المرجع نفسه، ص 50-51.

79 المرجع نفسه، ص 146.

80 Deprez, p. 8.

81 إلياده، البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، ص 153.